حكى لي أحد المعارف من تجار جدة عن موقف حصل له في ما يتعلق بموضوع حماية البيئة قال: سافرت إلى تايوان في إحدى رحلاتي للخارج من أجل التجارة وذهبت إلى أحد المتاجر وكان معي جهاز إلكتروني، ولما وقفت على باب المحل أخرجت الجهاز لأطلع عليه البائع بغية أن يدلني على الشركة المصنعة للجهاز وأردت أن أشغل الجهاز أمامه فوجدت أن الجهاز لا يعمل بسبب نفاد كهرباء البطارية، فأعطاني صاحب المحل بطارية جديدة فقمت باستبدالها ورميت بالقديمة بعيدا عن المحل، حيث توجد سلة مهملات بالحديقة العامة وعلى مقربة من المحل، إلا أن البطارية وقعت على الأرض خارج السلة فإذا بابن صاحب المحل يقفز من داخل المحل بسرعة البرق وكأنما لسعه عقرب وهو في أشد الغيظ ليلتقط البطارية من الأرض ويضعها في صندوق نفايات مخصص لجمع البطاريات التالفة قائلا لي: أتعرف ماذا سيحصل لو تركت هذه البطارية في الأرض؟ قلت ماذا سيحصل؟ قال: إن مقدار كذا متر مربع من الأرض في محيط تلك البطارية التي ألقيت بها سيتلوث عندما تتحلل البطارية في التربة وسيستمر أثر هذا التلوث في تلك البقعة لمدة 50 عاما وستكون هذه البقعة من الأرض خلال هذه الفترة غير قابلة للزراعة وغير صالحة لنمو أي نبات، سأل أخونا التاجر الفتى: وكيف عرفت ذلك؟ قال الفتى: أنا عضو في جمعية حماية البيئة، سأله ومن هم أعضاء الجمعية، وكم عددهم؟ قال إن جميع سكان تايوان هم أعضاء هذه الجمعية!، إلى هنا انتهت حكاية أخينا التاجر، قلت في نفسي، فمتى يكون سكان جدة جميعهم بل المملكة أعضاء في جمعية حماية البيئة، ونحن أولى الناس بهذا، فديننا جاء بكل القيم والمبادئ لحماية البيئة وبلادنا أطهر بقاع الأرض، وحكومتنا تنفق الغالي والنفيس في سبيل ذلك. ماذا سيرى؟ سرحت بفكري وتخيلت لو أن هذا الفتى زار جدة فماذا سيرى يا ترى؟، لا شك أنه سيرى العجب العجاب، سيرى المجتمع بأسره إلا من رحم الله وهم قلة نادرة كندرة الذهب والماس يلقون بفضلاتهم ومخلفاتهم وقمائمهم في الشوارع، الطرقات، الأسواق، الحدائق، المتنزهات، وفي البحر وعلى الشواطئ وفي كل مكان دون أدنى إحساس ووعي بخطورة الجريمة والإثم العظيم الذي يرتكبونه في حق البيئة التي خلقها الله سبحانه وتعالى لبني الإنسان نظيفة طاهرة نقية جميلة، فإذا هو يفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، لا شك أن هذا الفتى سيصاب بصدمة عنيفة من هول ما سيرى من القمائم والمخلفات بمختلف أنواعها والمنتشرة في كل مكان وستكون صدمته أكبر وحظه أسوأ لو صادف وقت زيارته لجدة في ذلك اليوم هبوب بعض الرياح، لأن أكياس النايلون المنتشرة في الشوارع والطرقات لا تنفك تتطاير هنا وهناك، وتدور حوله في تكتيك ومناورات خاطفة وحركات مباغتة لعلها تنال منه بالانقضاض عليه من فوق رأسه، فتتلبسه وتكتم أنفاسه أو تلتف حول عنقه وتخنقه، أما المناديل المستعملة القذرة والكراتين الممزقة وأوراق الصحف والمطويات وأشباهها فلن تتركه ينجو منها سالما، وستبلى بلاء حسنا للنيل منه بالجري وراءه وملاحقته وتعقبه وضربه على قفاه وعلى وجهه أو لفه وتدثيره حاثة في عينيه ما علق بها من أوساخ وما حملته من تراب، ويحاول الفتى عبثا الفرار والهرب من هذا الهجوم الكاسح الشرس، فلا يجد أمامه سوى اللجوء إلى سيارته ليحتمي بها من الأعداء ويريد أن يعبر الشارع فيجد ماء منتنا أغرق الشارع، وعندما يسأل عن السبب فسيقال له إن وايت الصرف الصحي تأخر عن المجيء لتفريغ محتويات بيارة أحد المباني ما أدى إلى طفحها في الشارع، حيث إن الطلب على هذه الوايتات في تزايد مستمر، استدار حول الماء حتى وصل إلى الجهة الأخرى من الشارع، نظر إلى الطريق فرأى صورا مقززة للبصاق المنتشر على الأرض هنا وهناك، نظر إلى المباني فوجد بعض جدرانها وقد غطتها ملصقات إعلانية لمختلف الأنشطة التجارية؛ بدءا بالدروس الخصوصية وانتهاء بشراء الأثاث المستعمل علاوة على وجود رسومات وكتابات عشوائية. نظر أمامه فإذا بجرذ ميت ظن في البداية أنه قط لكبر حجمه فدهش، إلا أن دهشته لم تدم طويلا، حيث أدرك أن انتشار القمائم والفضلات في كل مكان هو السبب وراء تكاثر الجرذان ونموها إلى هذا الحجم، ثم واصل سيره في اتجاه سيارته، وفي إحدى الزوايا من الشارع شاهد بعض النسوة والأطفال ينبشون في حاوية للقمامة ويفرغون محتوياتها على الأرض بحثا عن المواد التي يمكن إعادة تدويرها، وفي زاوية أخرى من الشارع شاهد أيضا سيارة لشركة النظافة أنهمك عمالها في إفراغ محتويات الحاوية وما بها من أكياس قمامة على الأرض بحثا عن المواد التي يمكن إعادة تدويرها قبل أن تمتد إليها أيدي أولئك النسوة، ومر من تحت أحد الجسور فرأى عددا هائلا من السيارات اتخذت من المكان مواقف حيث الإسفلت قد تكسر والأرض قد تحفرت نتيجة قيام العمالة السائبة بغسيل السيارات للراغبين في ذلك، استمر في طريقه وإذا به يتعثر في زجاجة عصير مكسورة ملقاة على الأرض كادت أن تشق قدمه نظر حوله فرأى قططا كثيرة هائمة على وجهها تأكل الفضلات من القمائم الملقاة هنا وهناك، سأل: ألا توجد عندكم جمعية للرفق بالحيوان؟ قالوا: لا ولا سمعنا بها، وأخيرا وصل إلى سيارته التي أوقفها في أحد المواقف فوجد أن أحدهم قد ضيق عليه في المكان بحيث لا يستطيع فتح الباب بشكل كاف، فاضطر للصعود من الباب المقابل، وما كاد يفعل حتى أحس بحذائه يلتصق بأرض السيارة ،خلع حذاءه ليعرف السبب فإذا بقطعة لبان أسفل الحذاء وقد علق جزء منها بأرض السيارة، أغلق باب السيارة وتنفس الصعداء وشغل المحرك وانطلق متجها إلى المطار، وفجأة إذا به يرتطم بإحدى فتحات غرف التفتيش البارزة إلى أعلى وقد هبطت الأرض من حولها هبوطا حادا وشديدا فتنكسر أذرع السيارة ومقصاتها وعكوساتها والعجلتان الأماميتان، وتكاد تنقلب السيارة لولا لطف الله، إلا أن الفتى لم يصب بأذى لأنه كان يربط حزام الأمان، ترجل من السيارة ووقف على الرصيف حيث اتصل على الشركة المؤجرة للسيارة وأعلمهم بالحادث وأنه سيذهب إلى المطار بسيارة أجرة وسيقابلهم في مكتبهم هناك. في سياة أجرة استقل الفتى سيارة الأجرة، ولما ركب وجد داخل السيارة متحفا متنقلا حيث الوسائد المزركشة وأكاليل الورود والزهور الاصطناعية والملصقات وبعض الصور والدمى، وكان جو السيارة يعبق ببعض الروائح الخانقة النفاذة، إلا أن الذي شد انتباهه أكثر هي ملابس السائق التي لم تكن زيا خاصا بسائقي الليموزين كما لم تكن نظافة السيارة من الخارج بأفضل من الداخل علاوة على الصدمات والخدوش المنتشرة على جسم السيارة، وفي الطريق لاحظ الفتى أن بعض لمبات الإنارة في الشوارع كانت مطفأة، وبعضها كان مضاء، فسأل السائق عن السبب؟ فأجاب: ربما إن شركة الإنارة استجابت لحملات الترشيد التي تدعو إليها شركة الكهرباء، ضحك الفتى وقال للسائق: إنك إنسان ظريف، وفجأة تظهر أمامهم أنوار كاشفة ساطعة شديدة التوهج، فيقول الفتى للسائق: تمهل إن أمامك نقطة تفتيش للشرطة فيجيب السائق: لا ليست هناك نقطة تفتيش فيسأل الفتى: ولكن لماذا هذه اللمبات الكاشفة؟ يجيب السائق: إنها لإنارة الطريق أسفل الجسر يقول الفتى: ولكن لماذا تم تسليطها في اتجاه السيارات القادمة ونحو أعين السائقين والركاب، إن ذلك يعيق الرؤية ويؤذي العين إنه تلوث بصري، قال السائق: إنها الطريقة الحديثة للإنارة التي لم تصل إليكم بعد ويوجد مثلها في أماكن كثيرة ومختلفة في جدة، وفي هذه الأثناء يقوم السائق بإلقاء قارورة ماء فارغة من نافذة السيارة فيسأله الفتى مغتاظا: لما فعلت ذلك؟ فيجيب السائق: وما المشكلة إن الكل هنا يفعلون ذلك، ثم إنها مجرد قارورة بلاستيك علاوة على وجود آلاف العمال ينظفون الشوارع وهم يتمركزون أكثر عند إشارات المرور حيث يتصدق عليهم ركاب السيارات، والبعض يغتنم فرصة توقفه عند الإشارة ليتخلص من الفضلات التي في سيارته، والبعض الآخر يتصدق عليهم ويرمي الفضلات في آن واحد، يرد الفتى في تعجب قائلا: آلاف العمال! يبدو أن لكل فرد منكم عامل نظافة!. التحايل على ساهر فجأة يزيد السائق من سرعته فيسأله الفتى: لماذا زدت من سرعة السيارة يجيب السائق: لأننا تجاوزنا كاميرا ساهر، قال الفتى: لكن السرعة ما زالت في هذا الطريق محددة ب80 كلم، انظر ها هي لوحات تحديد السرعة، قال السائق لقد حفظت أماكن وجود الكاميرات، فأنا أخفض السرعة عند اقترابي من الكاميرا ثم أعود فأزيدها عندما أتجاوز الكاميرا، قال الفتى في نفسه لذلك كان يجب تغيير مواقع الكاميرا بصورة مفاجئة وبشكل مستمر أو زيادة عدد الكاميرات على طول الطريق، وفجأة يسمع الفتى صوتا مدويا لفرقعة شديدة فيفزع ويسأل ما هذا؟ يجيب السائق: إنه صوت يخرج من شكمان تلك السيارة الكبيرة، أنظر ها هي ويوجد منها الكثير في شوارع جدة التي تصدر نفس الفرقعة، قال الفتى: إن هذا تلوث سمعي وعصبي لقد انخلع قلبي، وفي تلك الأثناء يشاهد الفتى هالة كثيفة من الدخان الأسود أمامهم فيصيح بالسائق: تمهل انتبه هناك سيارة تحترق، قال السائق: لا إنها سيارة مدخنة يعني سيارة تشرب سجائر أنا أمزح فقط، أقصد أنها سيارة مبوشة يعني ماتورها أو مكينتها خربانة، قال الفتى: تقصد أن مكينتها لا تحرق الوقود بشكل كامل فينتج هذا الدخان الذي هو غاز أول أكسيد الكربون وهو غاز سام من الدرجة الأولى ويعد ذلك تلوث رئوي أو تنفسي وهو خطير وقاتل، وأنا شاهدت في شوارع جدة سيارات كثيرة بها المشكلة نفسها، لكن بعضها لا ترى دخانا يخرج منها بل تشم رائحته عند الاقتراب منها. سائق صغير ويتذكر السائق التدخين فيخرج سجارة ويشعلها ويبدأ في التدخين فيرجوه الفتى ألا يفعل لأن ذلك سيؤذيه، استجاب السائق لمطلب الفتى ورمى بالسيجارة من نافذة السيارة إلى الشارع، قال الفتى وهو يكتم غيظه: ما كان يجب أن ترميها في الشارع لأنها من النفايات وكان يمكن أن تضعها في طفاية السجائر، بدأ السائق يتضجر من ردود فعل الفتى فتمتم بكلام لم يفهمه الفتى قائلاً: وبعدين معاك تراك زودتها، وفجأة تمر بجوارهم سيارة مسرعة كالسهم فينظر الفتى ليرى من يقودها فلا يرى أحداً فيتعجب ويسأل السائق قائلاً: إن السيارة التي مرت مسرعة لا يوجد أحد يقودها هل لديكم سيارات تسير بالريموت كنترول؟ ضحك السائق قائلاً: لا إن الذي يقود السيارة هو صبي صغير ولذلك لم تستطع رؤيته لقصر قامته، نظر الفتى إلى ساعته وقال للسائق: لم يبقى على وقت إقلاع الرحلة كثيراً لقد تأخرت! قال السائق: وماذا أفعل فأنت كما ترى الطريق مزدحم وإشارات المرور تغلق وتفتح مرات عديدة ونحن لم نتجاوزها بعد، قال الفتى: ولكن الزحام هذا يرفع درجة التلوث في الشوارع جراء تشغيل محركات السيارات لمدة طويلة في محيط ضيق كما يساعد على الاحتباس الحراري. وصل الفتى إلى المطار ونزل من السيارة شاكراً السائق على ظرفه ولطف تعامله وأنه سيذكره دائماً وسيذكر اللحظات الجميلة التي قضاها وسأله: كم حساب العداد؟ قال السائق: لا يوجد عداد قال الفتى حسناً كم الأجرة؟ قال السائق: كذا قال الفتى: هذا كثير قال السائق: يجب أن تحمد الله بأني أوصلتك إلى المطار سالماً دون أن تتعرض لأي حادث متجاوزاً مختلف أنواع التضاريس من حفر ومطبات ومنخفضات ومرتفعات وفتحات لغرف التفتيش الصاعدة والهابطة والمفتوحة والمكسورة، حيث أني تمرست على ذلك وحفظت مواقعها حتى أصبحت أعرف كيف أتفاداها باحتراف وتكتيك، وليس كما حدث معك قبل قليل وقد كدت تموت، قال الفتى: نعم صدقت، أنت تستحق هذا المبلغ وأكثر، ولكن أخبرني، كيف نشأت هذه التضاريس العجيبة فهي منتشرة بكثرة في الشوارع؟ قال السائق: إن المقاولين الذين نفذوها من الباطن بأسعار رخيصة وعمالة رديئة عقدوا إتفاقيات مع أصحاب ورش صيانة السيارات وذلك من أجل تعويض الخسارة الناجمة عن قبولهم المشاريع بتلك الأسعار، لذلك فإن النسخة الأصلية للخرائط والتي توضح كيفية تنفيذ هذه التضاريس موجودة لدى هذه الورش والتي أعدتها بمواصفات وشروط متفق عليها مع المقاولين ومن شروط هذه التضاريس: أن يصعب على السيارات المارة تفاديها، أن تلحق أكبر قدر ممكن من الضرر بالركاب والسيارات المارة بها، أن تعود إلى ماكانت عليه وأسوأ كلما تم إصلاحها، أن تكون لها القدرة في مضاعفة الحادث بجعل السيارات الأخرى المارة تصطدم بالسيارة التي ارتطمت وبذلك تكون مسؤولية المقاول هذا إن تحددت مسؤوليته تنحصر في السيارة الأولى فقط، قال الفتى: ما رأيك إذاً في فرصة استثمار ممتازة لتحدي هؤلاء المقاولين وورش الصيانة وقطع الطريق عليهم، قال السائق: وماهي؟ قال الفتى: نتفق مع أحد مصانع السيارات لصناعة سيارات ركاب مجنزرة و مقاومة لجميع التضاريس التي ذكرت؟ قال السائق: فكرة جداً ممتازة وأنا أبشرك بأنه سيكون لهذا النوع من السيارات مستقبل عظيم وستكون أرباحنا خيالية لأن هذه التضاريس في نمو وازدياد مضطرد، قال الفتى: ولذلك سنطلق على هذه السيارة اسم (شالنجر) قال السائق: ما معنى شالنجر؟ قال الفتى: يعني المتحدية، قال السائق: اسم مرعب وأيضاً مضاد للحسد لأن الحسد عندنا منتشر بكثرة قال الفتى: إذاً أعطني عنوانك وخذ عنواني ويكون بيننا اتصال أوكي أوكي والآن مع السلامة باي.