سمعنا وقرأنا مؤخراً عن خبر مقتل أحد الأطفال الأبرياء وقد ارتج المجتمع بأكمله لهول هذه الفاجعة، وقبل ذلك قرأنا وسمعنا مئات الأخبار والقصص الأليمة عن أطفال تعرضوا للقتل أو الاختطاف أو العنف أو نحوها من جرائم. والملاحظ هنا وهناك هو أن الناس بصورة عامة يتألمون ويحزنون ويبكون لمقتل الأطفال أضعاف بكائهم وحزنهم وألمهم على الكبار أو البالغين رجالا أو نساء. والسؤال هنا هو لماذا الأطفال تحديدا دون غيرهم؟ لماذا يكون مقتلهم فاجعة كبيرة وشيئا فظيعا وخطبا جللا وجريمة لا تغتفر؟ لماذا على سبيل المثال تأثر العالم وارتج لمقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة في الوقت الذي يموت يوميا أو شبه يومي عشرات الكبار؟ برأيي أن هناك أسبابا ودوافع وراء هذا التعاطف الإنساني اللامحدود مع الأطفال والطفولة، وهذا التعاطف هو ما يجعل النفس البشرية السليمة تستبشع قتل الأطفال أيا يكونوا وأيا تكن الأسباب والبواعث وراء ذلك، بل إنها أي النفس البشرية قد تغفر أو تلتمس العذر لأي سلوك عدواني أو عنفي إلا ما كان منها متعلقا بالأطفال وبحياتهم وكرامتهم وأمنهم. وسأحاول هنا تفصيل بعض هذه الأسباب ولعل القارئ الكريم أن يضيف ما يراه سببا وجيها قد أغفل عنه أو أجهله. السبب الأول أو الحقيقة الأولى المتعلقة بكل طفل في العالم هي «البراءة»، فالطفل بريء جملة وتفصيلا، والمراد بذلك أن الطفل بريء أو مبرأ من كل المطامع والبواعث الدفينة التي تعتمل في نفوس الكبار والتي قد تجعل المرء «الراشد» يدبر ويخطط لتحقيقها، بل وقد يرتكب الجرائم لأجل ذلك، أما الطفل فعلى العكس من ذلك.. فهو فقط مهموم بلحظته القصيرة ولهوه الحاضر فلا يعلم شيئا عن المستقبل ولا يدبر أو يخطط أو يتوسل بالطرق المشروعة وغير المشروعة لذلك، إنه أي الطفل يعيش حاضره البسيط لاهيا بذاته ومع أقرانه، مستمتعا بألعابه التي هي أكبر همه. أجل، إن من يكون أكبر همه هو هذه اللعبة أو تلك لهو بريء وبريء لدرجة الطهر، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يرتكب عملا يستحق عليه العقاب أو القتل. إن الطفل ببساطة لا يفعل «الفعلة» عن قصد ولا لغرض سوى اللهو واللعب، ولذا فإن كل الشرائع والقوانين التي عرفها البشر تتعامل معه بناء على هذه الحقيقة، فهو غير مكلف ولا يمكن إدانته وعقابه. الحقيقة الثانية المتعلقة بالطفولة والأطفال هي أن الطفل غير واع، وليس معنى هذا أنه لا يملك عقلا بل هو عاقل ولكنه غير واع بل «شاعر» بمعنى أنه يجري في سلوكه وإدراكه وتصرفاته مع الشعور وليس مع الوعي. وقد وضحنا في المقال السابق الفرق بين الوعي والشعور بوصفهما ملكتين للعقل. إن الطفل غير واع بما يفعل وبما يقول، ولذا فهو ينسى لاحقا بعدما «يشب» أغلب ما فعله، ولكنه ولكونه يمتلك قدرة شعورية قوية فإنه يستبطن ويحتفظ بالمشاعر والأحاسيس التي تلقاها صغيرا، وهذه المشاعر هي ما سوف يبقى وما سوف يبني شخصيته، فإذا استقبل مشاعر الحب والحنان والثقة فستؤثر إيجابا على شخصيته بل ووعيه وأما إذا التقطت هذه القدرة الشعورية الفذة مشاعر العداوة والبغضاء والكراهية والتعنيف فسينعكس بالتالي على شخصيته وحياته. وعلى كل حال فما يهمنا الآن هو أن الطفل ولكونه غير واع فهو بريء على الإطلاق ولا يمكن إدانته بأية صورة كما ولا يمكن تبرير أي عدوان عليه بأي مبرر. الحقيقة الثالثة أو السبب الثالث الذي يجعل قتل طفل عملا وحشيا رهيبا هو أن الطفل لا يعرف لماذا مات؟! إنه لا يعرف لماذا قتل وما الذنب الذي اقترفه؟ إنه يموت دون أن يعرف ما الذي حدث؟ وهذه حقيقة قد تثير الاستغراب لأن كثيرا من الكبار رجالا ونساء أيضاً لا يعرفون لماذا قتلوا؟ بل وكيف لهم ذلك وقد ماتوا؟ وهذا صحيح ولكن الفرق أن الكبير أو الراشد لا يستبعد أن يكون يوما ولو حتى بالخيال عرضة لأن يقتل، إنه واع بإمكانية أن يرتكب جرما يستحق من أجله أن يموت أو يقتل! وهو لا يستبعد أن يكون متورطا فيما قد يجعل موته مسوغا نوعا من التسويغ، وفيما من شأنه أن يجعل الناس لا يتعاطفون معه بالصورة التي يتعاطفون بها مع الطفل. وبعبارة أخرى فالإنسان الكبير الراشد يعرف جيدا ما معنى أن يموت مقتولا ويعلم تماماً أنه «مكلف» فتراه يلزم جانب الحذر والحيطة في كل تصرفاته حتى لا يكون عرضة للتهديد والجزاء. أما الطفل البريء فلا يمكن أن يكون واعيا بذلك، فأكبر همه كما قلنا هو لحظته المباشرة ومتعته الآنية والألعاب التي بين يديه، الأمر الذي يجعل حتى مجرد ضربه ولو بشكل «معقول!» جريمة يحاسب عليها القانون أو يجب أن يحاسب عليها القانون. في بعض الأحيان يكون هناك من الكبار من يشبه الأطفال في براءتهم ونقائهم.. وهؤلاء الناس الطيبون أيضاً يكونون موضعا لثقة وحب الناس، وهذه البراءة التي تصاحب البعض قد تكون شفيعا لهم وقت الشدة فيهب الناس لمساعدتهم ويتعاطفون معهم ويستبشعون التعدي عليهم وإيذائهم، بالضبط كما يحدث أيضاً مع كبار السن أو الشيوخ من رجال ونساء من الذين ينتهي بهم العمر إلى مثل ما ابتدأوا به في الطفولة من براءة ونقاء.