أوضح علماء واختصاصيون في الشريعة أن المجمع الفقهي السعودي سيكون نقلة نوعية وحضارية في مسيرة دعم المملكة للعلم الشرعي وأهله. وبينوا في حديث ل «عكاظ» أن المجمع سيسهم بشكل كبير في مناقشة القضايا التي تختص بالمجتمع السعودي من خلال فقهاء سعوديين لهم باع طويل في هذا المجال. وأشاروا إلى أن إنشاء المجمع يسهم في ضخ عناصر جديدة إلى هيئة كبار العلماء وهو ما نص عليه الأمر الملكي، وأوضحوا أنه سيكون بمثابة أكاديمية علمية تبرز جانب الاجتهاد الفقهي وتدعمه بشكل كبير ومتواصل. وأفادوا بأن المجمع سيكون له دور فاعل في ضبط الفتاوى الشرعية والتي من المفترض أن لا يجيب عليها إلا جهة مخولة علما وفقها وإحاطة ومعرفة بضوابط الأدلة، ومعرفة المستجدات التي لا يجيب عنها إلا العالمون، وأيضا دقة المتابعة للمستجدات فيما يتعلق بالأثر وجميع المسائل الفقهية. وبينوا أن إنشاء المجمع المرتبط بسياسة المملكة في ضبط الفتوى وخروجها كان ناتجا عن حاجة فعلية لمجمع يساند هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء ويقرر المجلس واللجنة إلى الأعمال المسندة إليها نظاما، مشيرين إلى أن هذه الآلية تصب في سد حاجة الوطن والمواطن، ودعم الأجهزة ذات العلاقة في الإفتاء. فإلى التفاصيل: رئيس المجلس الأعلى للقضاء عضو هيئة كبار العلماء الدكتور صالح بن حميد ذكر أن إنشاء مجمع فقهي سعودي وفتح فروع لإدارات البحوث العلمية والإفتاء يسهم في زيادة تواصل العلماء مع الشعب عموما، وتعزيز التوعية الإسلامية والتواصل والإفتاء والتوجيه والإرشاد. الرؤى المعاصرة وأوضح أستاذ الفقه المقارن المشارك بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور هشام بن عبدالملك بن عبدالله بن محمد آل الشيخ أن الحاجة في هذا الزمن دعت إلى تفعيل دور المجامع الفقهية والمؤسسات العلمية التي تجمع نخب العلماء والفقهاء في الشريعة للنظر في المسائل المعاصرة، وما يحتاجه المجتمع المتحضر من رؤية شرعية معاصرة يتفق عليها العلماء، وتكون محل النظر والمناقشة العلمية الجادة، ومن ثم الخروج بنتيجة تتناسب مع الزمان والمكان. وأضاف «من هذا المنطلق انتشر في العالم الإسلامي المؤسسات العلمية والمجامع والهيئات الشرعية الرسمية وغير الرسمية التي تمثل ما يسمى ب «الاجتهاد الجماعي»، وكان الهدف الرئيس منها هو جمع الكلمة والوصول إلى الحق بعد التشاور والتحاور بين المختصين في المجالات الشرعية، وهذا هو المقصود من المجمع الفقهي السعودي الذي أمر به خادم الحرمين الشريفين». وزاد «في ظل حياتنا المتطورة ماديا واختلافها عن الأزمنة السابقة، ظهرت على الساحة السعودية قضايا شغلت بال المواطنين، فالعصر الحاضر يختلف عن العصور الماضية اختلافا كليا؛ وذلك لأن كثرة الفتن وظهور المخترعات الحديثة والاكتشافات التي أبهرت العالم جعلت العلماء والمجتهدين يقفون متأملين في هذه المخترعات وهذه المكتشفات، وكان لابد من وضع ضوابط وشروط للاجتهاد في هذا العصر تضاف لشروط الاجتهاد المعروفة عند فقهائنا». وأوضح أن مايطلق عليه فقهيا المعاصرة في الاجتهاد تتطلب مراعاة الظروف الاضطرارية أو الحاجية، عملا بالقواعد الشرعية، مثل: الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، ومتى تنزل الحاجة منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، والعامة التي يحتاج إليها جميع الناس، والخاصة التي يحتاج إليها طائفة معينة من الناس، كما أنه في هذا العصر يتطلب من العالم لبلوغ رتبة الاجتهاد احترام النص، وتقدير مدى ملاءمة المصلحة لمصالح الشريعة، والاعتماد على مبدأ التوسع في فهم النص القرآني أو النص النبوي، والعناية بالحديث متنا ودراية وفهما. التغيرات الاجتماعية وبين آل الشيخ أن المعاصرة في الاجتهاد يراعى فيها التغيرات الاجتماعية والسياسية العالمية، مثل أوضاع المجتمع الدولي الحديث وكثافة السكان وكثرة المسلمين، وبخاصة في أداء مناسك الحج ورمي الجمار وما يحصل من زحام شديد، والذبائح وضرورة الاستفادة منها وتوزيعها بين المحتاجين من المسلمين، سواء داخل البلد المضحى فيه أو في خارجه، والانفتاح على الثقافة الحديثة والمعارف والعلوم العصرية التي أصبح من المهم جدا معرفتها، وفي طليعتها علوم الطب والكيمياء والفلك، والميل نحو الأخذ بالأيسر والأسهل، والتخفيف في إصدار الأحكام الشرعية بسبب قلة التدين، وضعف الهمة الدينية عند كثير من الناس اليوم، عملا بما قامت عليه الشريعة من مبدأ السماحة واليسر والسهولة، الذي دل عليه قول الله تعالى: «وماجعل عليكم في الدين من حرج»، وقوله «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر». وعاد للقول مجددا «مما لا شك فيه أن تأسيس المجمع الفقهي السعودي الذي أمر به خادم الحرمين الشريفين يضع حدا للحديث النظري ويقودنا إلى التطبيق العملي لفكرة الاجتهاد الجماعي»، مضيفا «في تصوري فإن المجمع الفقهي السعودي يجب أن يتميز بخصائص تجعله مؤهلا للقيام برسالته التي أشار إليها أمر خادم الحرمين الشريفين». وأوضح أن تلك الخصائص هي تقوى الله في الفتوى؛ وذلك بالجمع بين الحجة الشرعية والبرهان الجلي والدليل الصحيح من جهة، والخشية القلبية والإخلاص في النية من جهة أخرى من خلال اختيار الحكماء من علماء وفقهاء المملكة لمدارسة المسائل المستجدة والنوازل الطارئة بعيدا عن الاجتهادات الفردية أو المنفردة التي قد تتأثر بالشخصية الذاتية وبالعوامل البيئية وبالظروف الاجتماعية، وكذلك الوسطية في الفتوى بامتزاج آراء الفقهاء والمجتهدين في المملكة مع اختلاف بيئاتهم وتنوع مدارسهم الفكرية، والوسطية لا تقوم إلا إذا تم الحفاظ على المقاصد الكبرى وقواعد الشريعة من جهة والمرونة في الوسائل والآليات؛ تحقيقا لمبدأ الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر. التعصبات والنزاعات وبين أن ثالث تلك الخصائص التخصص الدقيق والعلم الصحيح النافع بعيدا عن التعصبات الفردية أو النزعات الفكرية أو التشددات الشخصية أو التساهلات الفقهية. وشدد على آخر الخصائص المطلوب توافرها في المجمع الحيادية والتحرر من الضغوط السياسية والاجتماعية، بحيث يتم إبداء الرأي بصراحة تامة، ويصدر القرار بشجاعة مطلقة بلا ضغط من أي جهة. وأكد أن الشرع المطهر لم يقف حجر عثرة في طريق التقدم العلمي، مشيرا إلى أن الدين الإسلامي دعا المسلمين إلى تسخير الحضارة الحديثة لما يخدم مصلحة الدين ويعود على الفرد والمجتمع المسلم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وفي المقابل نهاهم عن كل ما يفسد الدين والأخلاق حتى تطهر نفس المؤمن من دنس الرذيلة وشؤم المعصية. قسم نسائي واقترحت عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبدالعزيز الدكتورة فاطمة بنت عويض الحربي «إنشاء قسم خاص بالنساء في المجمع الفقهي السعودي الذي جاءت الأوامر الملكية بإنشائه يتم فيه ترشيح نخبة من الفقيهات المتمكنات المعروفات بحسن التحصيل العلمي والقدرة على العطاء». وقالت «لا شك أن وجود المرأة المؤهلة الفقيهة يثري جانب النقاش الفقهي خاصة في الأمور التي تخص النساء وقد كان النساء يحرصن على سؤال أمهات المؤمنين عما أشكل عليهن في أمور دينهن وبخاصة ما يتعلق بشؤونهن التي يصيب المرأة الحرج حين تسأل الرجل عنها». وبينت أن تولي المرأة للإفتاء جائز متى تأهلت له وهو ما نص النووي وابن القيم عليه، وهو قول جمهور أهل العلم إلا أحد الوجهين عند المالكية فيرون أنه مقصور على أمهات المؤمنين، في حين يرى الجمهور أنه لا دليل على هذا القصر وأن الصحيح جواز توليها الإفتاء متى تأهلت لذلك. وأوضحت أن «الإفتاء تبيين الحكم الشرعي بدليله، وهذا ليس ولاية عامة، لذلك لا تشترط فيه الذكورية ولا تحتاج فيه المرأة للاختلاط بالرجال ولا البروز إليهم»، مشيرة إلى أن أمهات المؤمنين والفقيهات الصحابيات رضوان الله عليهن مثل عائشة وأم سلمة وحفصة وأم حبيبة وصفية وأسماء وأم عطية ومن بعدهن من التابعيات مثل عمرة وحفصة بنت سيرين وهكذا في عصور الإسلام كن يفتين من وراء حجاب. وأضافت «إذا قرأنا في سير العلماء رحمهم الله نجدهم يترجمون لشيخاتهم ويذكرون المحدثات والفقيهات وأنهن كن يحدثن ويفتين من وراء حجاب ولم يمنعهن ذلك من التفقه والإفتاء متى تأهلت له، قال تعالى «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب». وأشارت إلى أن العلماء ومنهم الحافظ الذهبي «ذكروا مسألة التحديث عمن لم يرها وذكر الحافظ الذهبي أنه فعل العلماء وأنه أخذ عن شيخاته ولم يرهن، وذلك أن الأصل في المرأة التصون والتعفف والتستر». حاجة الشورى واقترح نائب رئيس الشؤون الإسلامية في مجلس الشورى الدكتور عبدالله برجس الدوسري أن يتبنى المجمع الفقهي السعودي الفصل في القضايا التي تحتاج لها المؤسسات الرسمية، «هناك مؤسسات رسمية تحتاج إلى فتاوى ورأي مدروس ومتعمق ومبحوث»، مضيفا «على سبيل المثال مجلس الشورى كما هو معلوم يضم متخصصين في الشريعة وعلوم أخرى». وزاد «المجلس ينظر قضايا ذات حساسية وأهمية ينبغي أن يكون القرار أو الفتيا أو الحكم الشرعي قد جزم فيه واتخذ مسبقا ثم يأتي للمجلس للمصادقة عليه ليكون المجلس على رؤية وبينة». وذكر الدوسري أن كثيرا من الأنظمة التي تأتي يكون المجلس في حيرة عن الحكم الشرعي فيها، متمنيا أن «يصدر حكم المجمع الفقهي السعودي فيها قبل أن تحال للحكومة ثم يحال للمجلس بعد أن يكون الحكم أو القرار شبه منته». وأوضح أن المسائل التي تتطلب اهتماما خاصا ما يتعلق بالمعاملات التي أصبحت منبعا للقضايا المستجدة التي تحتاج إلى بحث متعمق. وقال نائب رئيس لجنة الشؤون الإسلامية «هناك عدد من المجامع الفقهية لكنها لا تأخذ الطابع الوطني وإنما الطابع العام بمعنى الدولي وإن كانت المملكة هي التي تشرف عليها وتدعمها ومقرها في المملكة». وأضاف «من ذلك المجمع الدولي وهذا تحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي في جدة ويضم 43 دولة، وكذلك المجمع الفقهي الإسلامي في مكةالمكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي». وأوضح أن كلا المجمعين شبه متفقين في مهمتهما ويتوليان دور البحث في القضايا والنوازل وما يهم المسلمين في حياتهم بشؤونهم في تقديم الفتاوى وإصدار القرارات في القضايا المستجدة، مشيرا إلى أن «هناك مجامع عالمية أخرى خارج المملكة». وقال «الأمر الملكي بإنشاء المجمع الفقهي السعودي جاء ليقدم هذا المجمع ما يتطلبه المجتمع»، مستدركا «لكن لو كان دوره سيقتصر على ما تقوم به المجامع السابقة فهي تكفي عنها أما لو كانت هناك أهداف أخرى وهي ما يطمح إليها الملك وكل مسلم وخصوصا أهل الاختصاص فسيقدم المجمع الشيء الكبير للمملكة من المكانة». وأضاف «لذلك نحتاج إلى أن ترسم أهداف المجمع، فإذا رسمت أصبحت الأدوار المنوطة به مختلفة عن المجامع الأخرى وإن كان لا يمنع أن يكون هناك اشتراك في بعض المواضيع لكن ينبغي أن يكون هناك شيء من التخصص الدقيق مختلفة عن المجامع الأخرى حتى لا يحصل التكرار». وشدد على أن «خادم الحرمين الشريفين عندما أمر بإنشاء المجمع الفقهي السعودي فإنه يهدف إلى أن يكون مشروعا لعلماء ومفتين كبار يتسنمون ذروة قيادة الفتيا في المملكة في المستقبل وهو هدف نبيل ومن أهم ماينبغي أن يعتنى فيه»، متوقعا أن يكون المجمع «نواة إنتاج علماء ومفتين يكون لهم ثقلهم ووزنهم».