ذات مرة، ظهر المخرج مصطفى العقاد قديما أمام إحدى شاشات التلفاز، وقال إن السينما العربية تستطيع بقليل من المال تحقيق مكاسب مهولة، وتستطيع بقليل من الاهتمام تجاوز الخط الفاصل الذي يفصل بين السينما العربية وسينما الآخرين، وتستطيع أيضا بقليل من المثابرة توظيف الرأي العالمي لخدمة قضاياها العادلة. وبدت على ملامح المخرج العالمي وصوته وقتئذ رحمه الله نبرات من الاستياء والأسئلة والإحباط؛ لقد رأى المستقبل بعيون غيره من المخرجين، وتوقع أشياء لا يعرفها عموم الناس. ومصطفى العقاد، كما عرفته جماهير السينما العربية من خلال إخراج فيلمه عن المناضل الليبي عمر المختار، وصلاح الدين الأيوبي، أستطاع أن يرتقي بالسينما العربية إلى مصاف العالمية، وأن يخرجها من حيز الخصوصية المملة إلى إطار أكثر شمولية وسخاء في الطرح، مجيرا مكاسب الطرح لصالح قضايا الأمة على أوسع نطاق تاريخي ممكن. ومن هنا، منحت إضاءاته مسارا ضروريا للسينما العربية، ومن هنا أيضا اكتسب رأيه مصداقية كبيرة، واكتسب إبداعه حظوة لا نفاق ولا تزييف فيها. لكن القضية من الناحية الأخرى أن السينما العربية ليست العقاد نفسه، فالعقاد لا يعتبر أكثر من رمز مجرب، ومدرسة ناجحة استوعبت دورها بكفاءة عالية وسط هتافات الجماهير. غير أن المتابع لمسار السينما العربية يلاحظ أن أكثر السمات التي سيطرت على مسار السينما العربية تتمثل في ترهل الطرح، وانعدام الدور الثقافي، والإغراق في التافه والعارض الممل من قضايا تجار المخدرات، وطلاق الراقصات، وبلطجة تجوب ليلا الشارع العام. نحن لا نفترض أن تكون السينما العربية أداة توثيقية في الدرجة الأولى، لكننا لا ننكر من الناحية الأخرى أن إغراقها في تفاصيل التفاهة وتجاهل مفردات التاريخ يصنعان منها مادة صالحة للاستهلاك الآني، ولمرة واحدة فحسب. ومع ذلك، تنبهت بعض رموز السينما المصرية، بطريقة أو أخرى قبل الأحداث الأخيرة بعشر سنوات مدى حاجة السينما العربية إلى قضايا ومفردات من هذا النوع، وتنبهت أيضا إلى أهمية المسار الذي أشار إليه العقاد، فانكب المخرجون في مصر وسورية أيضا على دراسة نماذج تاريخية، فأخرجوا بعضا منها، ولا تزال نماذج رهن الدراسة وقيد التنفيذ، ولكنها للأسف الشديد لم تخرج إلينا حية كما أراد لها الإبداع. حسنا إذن، فما نريد أن نؤكد عليه في هذا السياق أن التوجه الوثائقي الجديد نوعا ما للسينما العربية الجادة، وإن جاء متأخرا عن أوانه بفترات زمنية طويلة، يظل أفضل من عدمه وأكثر جدوى من إسقاطه خارج ساحة السينما وسياق التاريخ. بصراحة سقطت رموز الرقابة في الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، لقد سرقت تلك الرموز رؤى إبداعية أطاحت بكثير من الحقائق فحرموها من الظهور علنا أمام الناس. الآن، حان الوقت، فربما نرى الكثير من الأفلام الوثائقية في غضون ستة أشهر أو ربما أقل على أيدي مبدعين عرب، بعد أن دفنتها سلطة الرقابة لأكثر من نصف قرن من الزمان. هنيئا لهذا الجيل فسوف يرى ويعرف ويتأمل كل شيء يريده حيا ومن غير مقاطعة على الهواء. لقد مات المخرج السوري مصطفى العقاد في تفجيرات تعرضت لها فنادق عربية قبل بضعة أعوام، فيما كتمت الرقابة أنفاس الكثير من المبدعين بما لا علاقة لهم بشهادة المرحلة، ولكن الحقيقة تبقى رهن العرض والانتشار لأن الحقيقة ببساطة شديدة لا يمكن أن تموت.. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 265 مسافة ثم الرسالة