وراء الحواجز وخلف ظهور القناصة، ظهر فجأة جانب جديد ومتنوع بل ويتسم بأجواء احتفالية في وسط القاهرة. في ميدان التحرير تقدم الأطعمة والمشروبات المجانية ويعزف البعض الموسيقى وتوفر طواقم طبية خدماتها مما يضفي شعورا بالانتماء للمجتمع، يقول المعارضون إنه يشعرهم بالفخر في بلادهم للمرة الأولى منذ عقود. وحين يعمد أفراد الأمن المتطوعون إلى تفتيش الحقائب والتفتيش الذاتي، يتصرفون بود وأدب، وفي نهج شديد الاختلاف عن سلوك «البلطجية» الذين يجوبون وسط القاهرة يريدون هؤلاء أن يشهد الجميع على إنجاز يعتبرونه إعجازا. «مرحبا» و«تفضل»، التحية المعتادة بينهم. حتى حين يمسكون بدخيل عادة ما يكون رجلا مفتول العضلات يحمل بطاقة تدل على انتمائه إلى الشرطة أو جهاز أمن الدولة، لا يعاملونه بالطريقة التي اعتادها المصريون الذين يخالفون تعليمات الشرطة. تحيط مجموعة من نحو عشرة شبان بالدخيل ويصطحبونه عبر الجموع إلى مكتب أمن مؤقت في شركة سياحة. يهتفون «سلمية... سلمية» لتحذير كل من تسول له نفسه الانتقام. تستجوبه لجنة الأمن المتخصصة سريعا خلف واجهة أحد المحال التجارية على مرأى ومسمع الجميع لمعرفة من الذي أرسله ولأي غرض، ثم يسلمه الشبان للجيش المنتشر على مقربة. وقال أحد المسؤولين في هذه اللجان «نعلم أن الجيش يطلق سراحهم فيما بعد». قضى بعض المحتجين أياما وليالي في المنطقة التي يعتصمون فيها منذ «جمعة الغضب»، وكان علامة فارقة في انتفاضة أحدثت هزة بالغة القوة في مؤسسة النظام المصري. نصب بعضهم خياما على العشب في الميدان الذي هو في الأحوال العادية، محور مروري مزدحم في قلب القاهرة، وينام آخرون على الطرق في أي وقت من الليل أو النهار منهكين من مهمة الحراسة التي يتناوبون عليها لحماية المحتجين من المؤيدين الذين يحاولون إخراجهم من الميدان. وعلى مدار الساعة يوزع الناس شطائر الفول وأكياس الخبز وعلب العصير.. يقدمونها لمن يريد. توافد الناس من جميع أنحاء البلاد، أغنياء، فقراء، متعلمون، أميون.. ليبراليون من الحضر ومزارعون من الريف.. يساريون وإسلاميون، اجتمعوا على هدف واحد هو إنهاء الحكم الممتد منذ 30 عاما. بعض النساء منقبات والبعض متحررات يرتدين الجينز وال «تي» شيرت، يرتدي أطباء ومحامون البدل بينما يتوافد غيرهم من الطبقة العاملة بأي ملابس لديهم مع شعورهم بضرورة الانضمام للحركة. وقال فرج عبد الصمد (58 عاما) وهو صاحب مشروع صغير من محافظة المنيا في وسط مصر، إنه ركب القطار إلى القاهرة يوم الأحد حين علم بما يحدث في العاصمة، وحده وبعيدا عن أسرته قال إنه يأمل الإسهام في صنع التاريخ. وبمزيج من السعادة المفرطة والتوتر جلس فرج على الرصيف بجلبابه البني ويديه الخشنتين من العمل في الحقول. ولم يسمع فرج قط عن عمر سليمان النائب الذي عينه الرئيس مبارك أخيرا بعد تفجر الاضطرابات.. لكنه يعرف ماذا يريد. في هذه النسخة المصغرة من مصر البالغ عدد سكانها 80 مليون نسمة تسمع تلاوات قرآنية ومحاضرات ملهمة عن مصر جديدة أو عزف على الجيتار وأغاني شعبية تبث عبر مجموعة من مكبرات الصوت وضعت قرب مبنى مجمع التحرير.. معقل البيروقراطية. لكن الأنشطة في ميدان التحرير لا تقتصر على المرح واللعب. فالحفاظ على الانتفاضة يتطلب مهاما ملحة وفي بعض الأحيان خطيرة مثل خلع أحجار الأرصفة لاستخدامها كمقذوفات وملء أجولة بالحجارة لنقلها إلى الخطوط الأمامية وتقطيع العربات المحترقة إلى ألواح معدنية لإقامة حواجز، والأهم حراسة مواقع الدفاع حين تشن المجموعات المؤيدة لمبارك هجمات. يتولى آخرون المراقبة في المقدمة ويقفون على براميل معدنية أو على ظهور شاحنات عسكرية. فإذا ما رصدوا اقتراب عدو دقوا ناقوس الخطر بضرب أعمدة الإنارة بقضبان معدنية أو ألواح خشبية وصاحوا «تحركوا.. تحركوا» وتتدفق التعزيزات من الخلف. أصيب أكثر من ألف شخص مساء الثلاثاء وصباح الأربعاء معظمهم بجروح في الرأس من الحجارة والبعض من جراء الذخيرة الحية، ويتجول المئات بضمادات. وبموارد محدودة صنعوا خوذات بدائية من أي شيء تقع عليه أيديهم حتى الكرتون وزجاجات المياه البلاستيكية التي يثبتونها بعضها إلى بعض بقطع من القماش.