لا يخفى أن مكةالمكرمة أحب البقاع إلى الله تعالى، اختارها الله سبحانه لتكون مقر بيته الحرام، وخصها سبحانه بصفات وخصائص لا تكون لأية بقعة من أرض الله، فجعل الحج إليها أحد أركان الإسلام، وجعلها حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء، وخصها بمضاعفة الأعمال الصالحة فيها، وجعل مجرد إرادة الإلحاد فيها بظلم معصية موجبة للعذاب الأليم، قال تعالى «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً»، وقال تعالى «الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب إليم»، وقال تعالى «أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمناً ويتخطف الناس من حولهم». حجة الوداع وفي حجة الوداع قدم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قبل الحج بأربعة أيام، ومكث في الأبطح ومعه أصحابه رضوان الله عليهم وكان يصلي الصلوات الخمس كل يوم هناك ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينتقل إلى مسجد الكعبة ليصلي فيه مدة إقامته في مكة، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أتقى عباده وأخشاهم لربه وأكثرهم حرصاً على تتبع مضاعفة الأجر والمثوبة، فلو كان المسجد الحرام مقصوراً على مسجد الكعبة وأن مضاعفة الصلاة خاصة بمسجد الكعبة لما رضي صلى الله عليه وسلم بفوات مضاعفة أجر الصلاة، فيصلي في مكان ليس من المسجد الحرام، حيث إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه غير المسجد النبوي والمسجد الأقصى، فصلاته صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه في الأبطح، والأبطح ليس من مسجد الكعبة يدل على أن المسجد الحرام هو عموم مكةالمكرمة ومنه الأبطح. يقول الله تعالى عن مشركي قريش «هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله»، وقريش صدوا رسول الله وأصحابه عن مكة ومن ذلك مسجد الكعبة كما منعوهم من تقديم الهدي تقرباً إلى الله، ومعلوم أن الهدي لا يذبح في الكعبة ولا في مسجدها وإنما يذبح في فجاج مكة قال صلى الله عليه وسلم «وكل فجاج مكة طريق ومنحر». قال الله تعالى في شأن وجوب هدي التمتع على المتمتع «ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام» وإذا قيل بأن المسجد الحرام هو مسجد الكعبة فهل يتصور بأن مسجد الكعبة محل سكنى أهل مكة؟ وإنما المقصود بالمسجد الحرام هو عموم مكةالمكرمة، وأهل العلم مجمعون على أن المكي المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه هدي لأنه من حاضري المسجد الحرام مكةالمكرمة. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبة أن إقامته فيها كان في الحل فإذا جاء وقت الصلاة انتقل من الحل إلى الحرم ابتغاء مضاعفة أجر الصلاة، وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، وقد ذكر هذا الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد إلى هدي خير العباد. وذكر هذا غيره من أئمة المسلمين وعلمائهم وهذا دليل قوي على أن المسجد الحرام الذي يتضاعف في أجر الصلاة هو مكةالمكرمة وجميع مشتملاتها مما هو داخل حدودها وليس خاصاً بمسجد الكعبة وإن قال بحصر المسجد الحرام في مسجد الكعبة بعض أهل العلم فهو قول مرجوح خال من أي دليل صريح. أعلام مكة وبناء على الأخذ بالقول المختار وهو أن المقصود بالمسجد الحرام هو مكةالمكرمة بمدلولها الواسع وفق حدودها التي ذكرها أهل العلم من فقهاء ومفسرين ومحدثين ومؤرخين، بناء على ذلك فقد قامت لجنة علمية بتكليف من مجلس هيئة كبار العلماء وتأييد من المقام السامي بالنظر في حدود مكةالمكرمة من جميع جهاتها وتقديم مرئياتها نحو وضع أعلام يتضح منها ما كان حلا وما كان حرما (وكاتب هذا أحد أعضاء هذه اللجنة)؛ فقد قامت اللجنة بما كلفت به حيث تابعت تنقلاتها حول محيط مكةالمكرمة ووجدت أن الحكومات السابقة قد قامت بوضع أعلام محيطة بمكةالمكرمة إلا أن الكثير من هذه الأعلام تهدم ولم يبق منها إلا بعض قواعدها ما بين أحجار ثابتة وأحجار متناثرة حول هذه القواعد، وقد قامت اللجنة بتتبع هذه الأعلام آخذة في الاعتبار المعايير الآتي ذكرها: 1 يكاد علماء التاريخ لا سيما المؤرخين من أهل مكة أن يجمعوا على أن «سيل الحل لا يدخل الحرم وسيل الحرم لا يخرج إلى الحل» وقد اختبرنا هذه القاعدة في مجموعة من قواعد الأعلام التي وجدتها اللجنة من الشمال والجنوب والشرق والغرب فظهر للجنة صحة هذا القول وتمت القناعة به فاعتبرته اللجنة أحد المعايير للحكم على أي علم ظهر للجنة أنه من الأعلام. 2 إذا وجدت اللجنة آثاراً تشك بأنها آثار لعلم وهي مثقفة مع قاعدة السيل ومع ما ذكره خواص المؤرخين عن مكةالمكرمة كالأزرقي والفاسي والفاكهي فإنها تبحث في هذه الآثار عما يدل على أنها آثار علم؛ وذلك بالنظر في هذه الآثار هل فيها بقايا مؤن البناء من جص أو نورة أو نحو ذلك؟ 3 في حال وجود علم أو أكثر فإن اللجنة تنظر فيما ذكره المؤرخون كالأزرقي والفاكهي والفاسي من التحديد وهل آثار ومواقع هذه الأعلام تتفق مع التحديد الذي ذكروه في كتبهم لم تعتبر اللجنة هذه الآثار لتلك الأعلام. 4 الاستنارة برأي أهل كل جهة من الجهات الأربع لمكةالمكرمة من كبار السن وذوي المعرفة هل يعتبرون هذه الآثار لقواعد الأعلام متفقة مع الحد العام للحرم وذلك من جهتهم، حيث إن اللجنة تصطحب في خروجها بعض المسنين من أهل تلك الجهات وتستنير بآرائهم في ذلك، وبهذه المعايير الأربعة توصلت اللجنة إلى تحديد مواقع الأعلام لكامل محيط مكةالمكرمة من جميع جهاتها الأربع، وقد استغرق عمل اللجنة أكثر من عشرين عاماً توصلت إلى تحديد أعلام الحرم من جميع جهاته الأربع، وبلغ عدد الأعلام ألفاً ومائة وأربعة أعلام جرى تحديدها بتحديث كل علم عن طريق الأقمار الصناعية، كما جرى وضع خرائط لكامل محيط مكة موضحا فيها مواقع تلك الأعلام وذلك بواسطة إدارة المساحة العسكرية في وزارة الدفاع والطيران. بناء الحدود واستعدت وزارة الداخلية بتكليف من المقام السامي بالبناء على مواقع هذه الأعلام وقد تم البناء بالفعل على مواقع الأعلام التي على الطرق العامة المتجهة من الجهات الأربع إلى مكةالمكرمة وهذه الطرق هي: 1 طريق مكةجدة السريع من الجهة الغربية. 2 طريق مكةجدة القديم من الجهة الغربية كذلك. 3 طريق المدينةالمنورةمكةالمكرمة من الجهة الشمالية. 4 طريق مكةالمكرمة إلى اليمن من الجهة الجنوبية. 5 طريق مكةالمكرمة إلى الطائف عن طريق جبل كرا وذلك من الجهة الجنوبية الشرقية. 6 طريق مكةالمكرمةالطائف عن طريق الشرائع وذلك من الجهة الشرقية. 7 طريق مكةالمكرمة إلى الليث وذلك من الجهة الجنوبية. وقد انتهت اللجنة من عملها في التحديد وختمت عملها بوضع الخرائط الموضحة مواقع الأعلام عليها وتثبيت الأعلام بالإحداثيات المربوطة بالأقمار الصناعية. تضاعف الأعمال ومن خصائص مكةالمكرمة أن الأعمال الصالحة يتضاعف أجرها كمضاعفة أجر الصلاة فيها عن غيرها، وهذا قول بعض أهل العلم، وقد استند أهل هذا القول على آثار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بعض أصحابه ومن ذلك ما يلي: 1 مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام إلى مائة ألف صلاة محل إجماع من أهل العلم، لكن هل المضاعفة خاصة بالفرض أم أن كل ما يسمى صلاة فهي صلاة مضاعفة؟ الذي يظهر أن عموم النص في ذلك وانتفاء الدليل على تخصيص العموم حجة لمن قال بالعموم وعليه فصلاة الفرض وصلاة النفل وصلاة الجنازة وصلاة الكسوف والخسوف وصلاة سجود التلاوة والشكر كل ذلك صلاة فهي مضاعفة إذا فعلت في المسجد الحرام ومن أدلة مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام على غيره ما يلي: حديث عبدالله بن الزبير حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة». وحديث جابر بن عبدالله حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. 2 مضاعفة الأعمال الصالحة المؤداة في المسجد الحرام من صدقة وصيام وذكر ونحو ذلك من أعمال القرب قياساً على مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام وللاستئناس بآثار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ضعيفة إلا أن بعضها يقوي بعضاً ويشهد لها المعنى والعقل وفعل بعض السلف الصالح، ومن ذلك: حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر كتب له مائة ألف رمضان فيما سواه وكتب له لكل يوم وليلة عتق رقبة ولكل يوم حملان فرس في سبيل الله. وحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة. وجاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال صوم يوم بمكة بمائة ألف وصدقة درهم بمائة ألف وكل حسنة بمائة ألف. مضاعفة السيئات ومن حيث المعنى والعقل فإن القرب من العظيم وخدمته ليس كخدمته عن بعد فإن خدمة العظيم عن قرب يكون لها من التقدير ومضاعفة الأجر ما لا يكون للخدمة عن بعد، وكذلك الأمر بالإساءة وسوء الأدب فعقوبتها أشد وأنكى من عقوبة الإساءة من البعيد، ولاشك أن النصوص الصحيحة الصريحة في مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام عما سواه تطبيق واضح لهذا المعنى، فالصلاة هي عمود الدين وصلة العبد بربه ومضاعفتها في المسجد الحرام محل إجماع بين أهل العلم لحصولها في حرم الله فكذلك الأعمال الصالحة في حرم الله أجرها مضاعف ولابن القيم رحمه الله في كتابه: زاد المعاد لهدي خير العباد قول وجيه في مضاعفة الحسنات في مكةالمكرمة قياساً على مضاعفة الصلاة فيها، وفضل الله واسع وكرمه شامل. 3 اتفق أهل العلم على أن عمل السيئة في المسجد الحرام ليست كعملها فيما سواه من حيث العقوبة حتى إرادة المعصية والإلحاد بالظلم معصية قال تعالى «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم» ولكن اختلفوا هل السيئة تتضاعف كما تتضاعف الحسنات من حيث العدد أم أن السيئة يكبر جرمها وحجمها، فهل السيئة تتضاعف كمية أو كيفية؟ وقد أخذ بالقول بمضاعفة السيئة من حيث العدد عبدالله بن العباس رضي الله عنهما حينما اختار الطائف مقراً لإقامته وعلل ذلك بأن سيئاته أكثر من حسناته والسيئات تتضاعف عددا كما تتضاعف الحسنات؛ فقد روي عنه قوله: مالي ولبلد تتضاعف فيه السيئات كما تتضاعف فيه الحسنات. خصائص مكية 4 ومن خصائص مكة ما ذهب إليه بعض أهل العلم إلى أن المسجد الحرام يختص بجواز المرور بين المصلي وسترته وأنه لا يلزم وضع سترة للمصلى في المسجد الحرام فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند مقام إبراهيم والطائفون من ذكور وإناث يمرون أمامه ولم يضع سترة بينه وبينهم، كما ذهب بعض أهل العلم إلى أن عموم النهي عن الصلاة النافلة المطلقة في أوقات النهي مخصوصا بجواز الصلاة مطلقا في المسجد الحرام كل وقت حتى أوقات النهي. 5 ومن خصائص مكة توفير الأمن والأمان والسلامة للحيوانات الوحشية المباحة الأكل من طيور وغيرها والنهي عن صيدها أو تنفيرها في المسجد الحرام، وعلى المخالف جزاء مخالفته وذلك بمثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره. وكذلك الأمر بالنسبة لحماية أشجار مكة وحشيشها وأن على قاطع الشجر أو محتش الحشيش جزاء ذلك حسبما ذكره أهل العلم في بابه. وخلاصة القول أن للمسجد الحرام من الخصائص والمميزات ما ليس لغيره من أرض الله وهذا نتيجة لكون مكة أحب البقاع إلى الله تعالى. وقرار مجلس أمناء العواصم الإسلامية أن تكون مكةالمكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 1426ه 2005م قرار ينسبها إلى النقص إلا في هذا العام ومكةالمكرمة منزهة عن ذلك إذ لا شك أن عاصمة مدن وقرى جميع أرض الله تعالى مطلقاً فهي أم القرى ومكان اختيار بيت الله الحرام وأحب البقاع إلى الله تعالى فلا يجوز أن يعتقد فضل غيرها عليها مطلقا في كل زمان ومكان، كما لا يجوز أن يخص فضلها وتميزها بعام دون الأعوام السابقة أو اللاحقة فهي عاصمة مدن العالم مطلقاً، والله المستعان. * عضو هيئة كبار العلماء والمستشار في الديوان الملكي، وعضو لجنة تحديد أعلام الحرم المكي.