في غمرة الحج وزحماته وهدوء النعي ونشراته والمراثي والتأبينات التي خطت عن فقيد الأمة والوطن الدكتور محمد عبده يماني الذي غيبه الموت في الأيام المباركة من العشر من ذي الحجة، وبعد السيل من المناقب التي كتبت عن هذا الرجل الكريم الشهم الراحل أود أن أشير بالاستقراء الفكري والسياسي عن سيرته العطرة من خلال صلته وتواصله مع طبقات المجتمع السعودي والعربي والإسلامي والغربي. فهو يعد من الجواهر الإنسانية النادرة في دنيا أصحاب الجاه والمكانة والمعالي سمتا وتواضعا وذكاء وفكرا وحبا للخير ومخالطة للضعفاء والفقراء قبل الوجهاء والأعيان، تسنم السلم الوظيفي الأكاديمي والإداري بتوفيق الله بعد كفاح وعصامية من الله عز وجل عليه فيها بنيل كرسي الوزارة بجدارة واقتدار وعزم وحزم لم يؤثر فيه المنصب ببهرجه وبريقه ولم يتأثر به، بل ظل كما عرفه الناس حتى بعد خروجه منه نبلا وشهامة وقضاء لحوائج الناس مع التواضع المشوب بلغة الخطاب الثقافي العالي والشعبي المتواضع. كانت فترة وزارته للإعلام مليئة السمع والبصر والدوي السياسي والاجتماعي المعقد للأهمية وحساسية منصب وزيرها، وهو مع ذلك اعتبر بين أقرانه في تلك الفترة الوزير المحظوظ المحسود الذي نال ثقة جلالة الملك خالد رحمه الله (ت 1402ه)، فأحبه لصراحته وقولته للحق كما أنه بهذا القرب والحظوة ينقل إلى الملك كل حدث وحديث ساخنا داخليا وخارجيا، فمن مهام وزير الإعلام إحاطة ولي الأمر وإطلاعه على كل ما يدور من أخبار ونشرات وتعليقات مدحا أو نقدا خصوصا في فترة الطفرة التي تزامنت مع توزيره، حيث ارتفاع أسعار برميل البترول والموجات السياسية المتقلبة والاحتقانات العالمية وفي ظل ما يكتنف هذه الظروف كان الوزير يحيط سيده بكل صغيرة وكبيرة رصدا لما تنقله وسائل الإعلام الخارجية عربية وغربية وقد جلست مرة بجواره في عزاء أحد الشخصيات في جدة فجر الحديث عن فترة وزارته ومهمة وزير الإعلام وحدثني في تلك المناسبة أنه كان لا يخفي على الملك شيئا مدحا أو قدحا عن المملكة، قائلا لي: إن الملك خالد رحمه الله كعادته مساء كل يوم يستقبل الأمراء والعلماء والوزراء بعد صلاة المغرب في قصره العامر، ويحمل له وزيره في خلوته ملف الأخبار فنقل إليه ذات ليلة أن عالما طالب في إحدى وسائل الإعلام الخارجية (إخراج قبر النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وبناء سور عليه، واقترح أيضا في رأي شاذ هدم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلما فرغ الوزير من تلاوة تقريره اشتاط الملك غضبا وقال: (لم يفعلها الملك عبد العزيز رحمه الله ولا إخوتي من بعده ولن نفعلها نحن أبناؤه أبدا) ووجه الملك الوزير بتوجيه ملكي يبلغ من يعنيه الأمر استياء الملك وغضبه وتوعده لمثل هذا الكلام المتطرف والفكر الشاذ المنحرف مكلفا إياه بتبليغ توجيهه الشفوي إلى فلان من الناس (أحد أعمدة الديوان) لاستدعاء الشخص وإفهامه غضبة الملك وشجبه لرأي شاذ كهذا وظل الملك يتابع الموضوع حتى انخمد صاحبه وفكره. ومن يتأمل صفحات السياسة الشرعية وأعمال الملوك والسلاطين يجد أن الملك عبد العزيز رحمه الله محافظا على هذه الآثار والتراث الإسلامي ومن دلائل ذلك أمره السامي المطاع ببناء مكتبة مكةالمكرمة سنة 1370 ه مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما لهذا الأثر والإرث النبوي وحافظ الملوك من بعده كابرا عن كابر على هذا المكان، كما قال الملك خالد رحمه الله. واليوم وفي ظل عهد الملك الصالح عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني سيحافظ على ما فرط من آثار وما اندرست معالمها. وبعد فالذي يتأمل هذه القصص وغيرها مما رواه الراحل رحمه الله يتضح له ما يلي : أولا: الفجيعة والرحيل الصامت لرجل صادق القول والعمل صريحا واضحا في حياته العلمية والعملية ومهماته الوظيفية التي تستوجب الإخلاص لله ولرسوله وللأئمة المسلمين وطاعتهم. ثانيا: تمتع الرجل بسمعة ودوي كبير قبل وزارة الإعلام وبعدها فقد غير الصورة النمطية لوزير الإعلام بالمكاشفة والمصارحة والنقل الأمين لولي الأمر في كل صغيرة وكبيرة، وهذه هى مهمة وزير الإعلام، إذ يختلف عن الوزراء الآخرين لجسامة ومسؤولية وثقل وحساسية المهمة. ثالثا: سلك منهجية متميزة في إدارته للوزارة بالفهلوية والحنكة البارعة والبعد الذكائي المتعمق المدروس متعاملا مع الحدث والأحداث ببراعة وإخراج فني ودبلوماسية إعلامية متزنة جامعة بين النازلة وظروف معالجتها بما يلائم عصرها وتوقيتها. رابعا: ظل رحمه الله منافحا ومدافعا عن الآثار والمآثر الإسلامية التي تضمها أرض المملكة مطالبا كغيره من السواد الأعظم بالمحافظة عليها والبقاء على أوضاعها لأنها تكشف للجاهل والغائب المعالم والجهاد المسيري لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم في دعوته وإقامة نظام حكمه على منهج الكتاب والسنة. خامسا: نتمنى أن يطلق اسم شارع رئيسي في عروس البحر الأحمر باسمه وأن تقوم جامعة الملك عبد العزيز بإطلاق قاعة كبرى تحمل اسمه كأول مدير للجامعة. سادسا: وددت لو أن أبناءه الكرام يقومون بإخراج ما كتبه من مذكرات مخطوطة. رحم الله هذا العالم الوزير المتواضع اللبق والجريء والدبلوماسي المتخلق وعوض الله الأمة فيه خيرا. * أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة المقارنة، عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي