إن مفهوم التخلف ذو طبيعة سلبية ودلالة خارجية تتحدد بناء على استحضار مفهوم «التقدم» ولكنه غير المفهوم الذي يفيد معاني التجديد والتطور وتحقيق الإمكانات الذاتية والنمو الداخلي. وهذا المفهوم المغاير للتقدم وهو أيضا تصور سلبي (خارجي ) يكتسب دلالته بارتباطه الوثيق بمفهوم التخلف لا يفترض، منطقيا ولا تاريخيا، وجود فعاليات وأنشطة كالتجديد والتطور والنهوض، بل يكفي فيه أن يدخل في صراع مع الآخر، وفي منافسة غايتها النصر. لو حاولنا أن نرصد ملامح تطور سؤال التخلف، تاريخيا، لوجدنا أن المتقدم لا يلح عليه هذا السؤال بقدر ما يلح على المتأخر أو المتخلف. فإذا وضعنا النقاط على الحروف فإننا سنقول إن المتقدم هنا هو الأوروبي الحديث، والمتخلف هو العربي والمسلم «الحديثان». وعليه فإن الأوروبي، بوصفه متقدما، لا ينشغل بسؤال التخلف، ولا بالتقدم بوصفه مقابلا للتخلف. أما العربي والمسلم فهو مشغول جدا بهذا السؤال الذي صار هاجسا مقلقا. ولكنه لا يزال يتخبط في سوء التصور الذي وضعه لفكرة التقدم. هل التخلف والتقدم، بهذا المعنى، قديم أم حديث ؟. إن سؤال التخلف والتقدم يقتضي ثنائية الأنا والآخر، ولكن بصيغة معينة: هي صيغة الأنا / المتخلف الذي يدخل في صراع تاريخي طويل وعلى كافة المستويات مع الآخر / المتقدم. في العصر اليوناني كان الآخر هو البربري والهمجي الذي يريد القضاء على حضارة أثينا ومعالمها. وفي العصر الإسلامي القديم، كان الآخر أيضا، عدوا همجيا، ولكنه لم يدخل في منافسة حضارية؛ علمية وأدبية وفكرية واقتصادية، مع الذات العربية الحضارية. وهذا الآخر الهمجي الذي يمثل خطرا على الذات العربية كان ( الأوروبي المسيحي الوسيط ) وسنتوقف عنده برهة لأن حالته، من هذا المنظور، مماثلة نوعا من التماثل، لحالة العربي الحديث، مع استبعاد ( المغول)، مثلا، الذي لا يمثل – تاريخيا وحضاريا – الآخر الند؛ فهو لا يملك مثل هذه المقومات الضرورية لتكريسه كآخر، لأسباب من ضمنها قصر المدة الزمنية التي دخل فيها دائرة الصراع مع المسلمين، ولفقره الحضاري: الديني والعلمي والسياسي الذي يؤهله للمنافسة التي تشكل تهديدا كليا للهوية الحضارية. وأما الأوروبي الحديث فلم يكن ثمة آخر منافس، فهو ينطلق في تقدمه ( تطوره) دونما استهداء بنموذج حضاري ما يفوقه ويطرح نفسه كآخر له، عليه الدخول معه في صراع ومنافسة غايتها الظفر والفوز وحسب؛ آخر يكون مؤسسا جوهريا لقيمه وتصوراته ومفاهيمه، بصفته هذا الآخر المتخيل والموهوم. وإذن ففي الحالات الثلاث: اليوناني القديم، والعربي القديم، والأوروبي الحديث لم يكن ثمة ( آخر ) متقدم، أو أكثر تقدما يجعل ( الأنا ) تعاني أزمة تاريخية حادة ونقصا حضاريا حادا، ويمحور كل غاياتها وأنشطتها وفعالياتها نحو التخلص من هذا النقص، وتحقيق المساواة أو النصر. هنا لم يظهر أي سؤال للتخلف، واقتصر الأمر على أسئلة من نوع مغاير: كسؤال التطور، العدالة، الإصلاح، ونحوها.. بقيت لدينا الحالتان التاريخيتان: الأوروبية الوسيطة، والعربية الحديثة. في الحالة الأوروبية الوسيطة كان الآخر المتقدم هو العربي القديم، ومع ذلك لم يكن «سؤال التخلف» الأوروبي الوسيط حادا بمثل ما هو عليه عربيا اليوم، لأسباب عديدة؛ ومنها اختزال الصراع والمنافسة في الجانب العسكري تقريبا. كما أن غياب التفاعل الحضاري والتواصل الثقافي الجدلي أدى إلى سيادة جهلٍ بالآخر، وتصور مشوه يقتصر على مؤشرات سطحية. فلم يتغلغل الآخر ( العربي القديم ) في تفاصيل الحياة الأوروبية الوسيطة، كما سيحدث لاحقا، في الحالة العربية الحديثة، إذ ستساهم التقنية العسكرية وغير العسكرية في تغلغل وانتشار الآخر ( الأوروبي الحديث) داخل أطواء الحياة العربية الحديثة. ولذا ظل تأثير العرب القدماء على الأوروبيين الوسيطيين محصورا في نطاقات ضيقة لا تتعدى الفلاسفة والعلماء ورجال الدين. وطرِح سؤال التخلف في دوائرهم المحدودة، ولكنه إذا جاز التعبير، كان سؤالا نخبويا، ولم يشغل الحضارة برمتها. وإذا ما سلمنا أن للحضارة العربية القديمة تأثيرا جذريا في قيام النهضة الأوروبية فإن لظهور سؤال التخلف، السابق لعصر النهضة، دورا ما. ولكنه ليس دورا جذريا وبنيويا، أقصد إن إثارة سؤال التخلف ( الذي تجسد ضمن ما تجسد في تقليد العلم العربي والاقتباس من حضارة العرب) كان خاتمة المرحلة الوسيطة، وليس بادئة المرحلة الحديثة المتمثلة في عصر النهضة ( الرينسانس ). ففي العصر الأوروبي الحديث تم القطع، معرفيا وتاريخيا، مع فكر القرون الوسطى، المسيحي منه والعربي.. وقد نقول إن حضور العلم العربي القديم في سياق الثقافة الأوروبية الوسيطة كان بمثابة الموقظ، أو العلامة التي تدل على الخواء الفكري و( التدهور ) الحضاري الذي يقتضي بروز فكرة التقدم بوصفها ( تطورا ) تلقائيا إيجابيا ذاتيا. وهذا يعني من جهة أخرى أن إثارة سؤال التخلف الذي كان العربي المتقدم، سببا فيه، لا يعني بالمثل أن للعربي دورا عليا ( أو: سببيا ) في ظهور العصر الأوروبي الحديث. وحينما صرخ بترارك ( الشاعر الوسيط ) في وجه الرشديين اللاتين المتعصبين للعلم العربي قائلا: «يا للحماقة ! هل قدر علينا ألا نؤلف بعد العرب»، لم يكن صراخه دافعا للتقدم، بل كان محذرا من التخلف. فكان لا بد من مجيء عصر جديد يقطع تماما، ليس، فقط، مع الفكر المسيحي والعربي، بل مع بترارك ومع سؤال التخلف بحد ذاته. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة