كنت في طريقي لحضور ندوة في «عكاظ» حول التعليم الفني، وهو موضوع لو يعلم الناس ذو أهمية كبرى في تحديد مسارات نهضتنا المرتقبة، ولم يكد يستقر بي المقام حتى هاتفني من نقل إلي نبأ رحيل الجد والأب والتربوي الفذ الخال الشيخ (حمد بن عبد العزيز بن عبد الله الزير ) رحمه الله، ولم يكن بيدي لحظتها أن أسافر من فوري والناس يتطارحون أمرا يهم الوطن كله، فهذا لم يكن ديدن الراحل المقيم إذ درج خلال حياته العامرة على تقديم العام على الخاص، ولكن أخذ شريط من الذكريات والمواقف يتناسل في ذهني. من السهل أن نتحدث عن القيم النبيلة ونتغنى ونتفنن في مغازلتها، أما أن نجسدها فكرا وسلوكا فأمر في غاية الصعوبة، ولكن بعض الناس يولدون ويولد معهم هذا الميزان الدقيق الذي يفرقون به بين الحق والباطل، وهذه نعمة وهداية من الله يمنحها من يشاء من عباده، ومن ذلك أن الرجل كان في غاية الشفافية، يتحدث بلسان واحد، فما يقوله بين يدي ولاة الأمر يقوله بين الناس كافة، وكان ولاة الأمر على معرفة ودراية به وبشفافيته وعفويته السمحة تلك لذا كانوا يجيزون له ما لا يجيزون لغيره، فمحبته كانت هي جواز مروره. ومن ذلك أنه كان من أوائل من تنبهوا إلى أهمية التعليم في مجتمعنا وكان في ذلك عنيدا، فأغدق على بنيه بسخاء فاتحا أمامهم باب التعلم على مصراعيه، وفي زمن كان الناس يتهيبون تعليم البنات اختار أن يسبح ضد تيار التخلف في مجتمعه ليتيح لبناته وبنات الأسرة أن ينهلن من معين العلم بقدر ما في وسعهن، وهو الملتزم في كل سلوكياته بقيم الشرع الحنيف، إلا أن فهمه للدين كان على الاستقامة والوسطية بلا غلو أو تطرف، فكان أن غرس قيمة التعلم والتعليم ليس في نفوس أبنائه وبناته وحسب، بل وفي نفوس وقلوب وعقول كل من كانوا حوله في مجتمعه، وأزعم أن بركات وعيه هذا قد طالتنا نحن أيضا إذ ظللتنا رعايته وعنايته بتربيتنا ومتابعة تعليمنا وحثنا على التدرج فيه، كبارا وصغارا أيضا، وقد تجاوزنا فضله هذا نحن أبناء عائلته الصغيرة ليشمل أسر مجتمعنا الكبير، وله في ذلك مواقف مشهودة ومنها أذكر ونحن صغار أنه حين يأخذ أبناءه إلى محلات الملابس لشراء كسوة العيد، أنه كان يشتري لأبناء من توفوا آباؤهم من معارفه مثلما يشتري لأبنائه ويحفزهم لمواصلة تعليمهم كنوع من الوفاء والتكريم لآبائهم المتوفين. لقد ودعه إلى مثواه الأخير لرحاب الله جمع غفير من الناس لا يقل عن ألف رجل، وقد سألني أحدهم متعجبا: «هذه جنازة من؟، فقلت له: لقد أقام بحياته وأعماله عرشا في قلوب الناس، ولذا جاؤوا يودعونه» ، فقد كان يرحمه الله أبا للناس جميعا في مجتمعه، واستطاع أن يحتل في قلوبهم مكانا عاليا وقدرا كبيرا. وفي العزاء الذي شهد حضورا كبيرا ومختلفا ومتنوعا من الأمراء إلى العامة لم يكن الحديث يدور سوى عن مآثر الراحل المقيم، الذي استطاع خلال المائة عام التي عاشها بفضل الله أن يترك بصمة واضحة في حياة كل من عايشه، وكما قيل قديما «لم يمت من خلف» .. وقد خلف الراحل المقيم قيما ستظل باقية وخالدة بإذن الله.. (رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته إنه على كل شي قدير). * أكاديمي وكاتب سعودي www.binsabaan.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 215 مسافة ثم الرسالة