تقف أمام إشارة ضوئية، قبل أن يعطيك اللون الأخضر إشارة الانطلاق تنفجر من خلفك حزمة أبواق لسائقين يستعجلونك السير كما لو أنك قد تأخرت عليهم عشرة أعوام. تسير في أمان الله على إحدى الطرق السريعة، ملتزما السرعة المحددة، فجأة تلمع من خلفك أضواء سائق يطلب أن تزيح عن طريقه، فإن لم تفعل قذفك بالأبواق المزعجة ذاتها كما لو أنك تحول بينه وبين الأمجاد الأبدية. تنتظر دورك أمام بائع السوبرماركت، فجأة يقفز أحدهم أمامك آخذا دورك متعجلا الشراء كما لو أن سيفا يهدد بقطع رأسه لو انتظر قليلا. نعم.. نحن نعيش في عصر السرعة، لكن هذه ليست سرعة بل جنون. أفهم أن عصر السرعة يعني اختصار الزمن في عمل شيء واحد للاستفادة من الوقت المتاح لعمل شيء آخر. أي أن السرعة تكون مقصودة تحاشيا لإهدار الوقت ولإنجاز عمل أكثر فائدة ونفعا. لكن المشكلة لدينا أن هؤلاء المستعجلين لا يملكون سببا واحدا لاستعجالهم. بل إن بعضهم لا ينتظره شيء على الإطلاق. وكل مشكلته أنه لا يحب الانتظار. لا في السير، ولا في السوبرماركت ولا حتى انتظار من ينصحه بكلمة. هو لا يفكر في عواقب استعجاله. ما يهمه أن ينتهي مما لديه بأسرع وقت، سواء كان ما ينتظره زوجة تلد في البيت أو دعوة للعب البلوت. هل هي الأنانية ما يدفع الإنسان إلى الاستعجال دون سبب، فيضرب بعرض الحائط كل قوانين السلامة والأخلاق والصبر؟ أم أنها القوانين التي تتساهل في معاقبة من يتجاوز حدود العقل إلى جموح الجنون؟ ستجد في كتب التحليل النفسي ألف سبب يبرر استعجال الناس فيما يعملون. لكن أجمل تحليل قرأته ذاك الذي يقول إن الإنسان المستعجل ما هو إلا خائف من أن تهرب منه سعادة ما. هذا تحليل قرأته لحكيم هندي اسمه عناية أعظم خان. وقد رأيت ما يطابقه في بعض المراجع الأخرى. يقول التحليل إن المحرومين من السعادة يبحثون عنها في كل ما حولهم. فلا ينتظرون ولا يرون ولا يسمعون سوى صوت الجوع إلى السعادة في داخلهم. هم رافضون لواقعهم، فيبحثون عن آخر لعله فيه بصيص أمل سعادة أكبر، من أجل ذلك لا ينتظرون أن تطول اللحظة التي هم فيها حتى لو كانوا سعداء بالفعل دون أن يعرفوا ذلك. نعم.. كثيرون منا هم سعداء دون أن يدركوا ذلك. لأنهم لا يرون الواقع، أو بمعنى آخر، يرفضون رؤية الواقع معتقدين أنه بلا محتوى. فيبحثون عن واقع آخر، وتتكرر القصة. لست أملك ما أضيف هنا أكثر من قوله تعالى: «إن الله مع الصابرين». وكما أنني واثق من أن الوقت لا يقدر بثمن، فإني على قناعة بأن الاستعجال يقتل الإنسان ولو بقي حيا.. دون أن يعرف بأنه ميت منذ زمن. [email protected] للتواصل إرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو زين 737701 تبدأ بالرمز 258 مسافة ثم الرسالة