التهاويل ليست أكاذيب، بل هي مبالغات مقصودة أو غير مقصودة. والذي يقوم بصنع «التهاويل» في وقتنا الراهن هو «الإعلام» بشتى أنواعه، وإن كان الشعراء قديما يقومون بهذه المهمة، والخطباء، والمؤرخون، والحكواتية. في النفس البشرية رغبة دفينة نحو الكمال، ونحو اختراع البطل الخارق أو العدو الخارق، ويمكن النظر إلى التاريخ من زوايا متعددة، إلا أن التهاويل تسيطر على روح التأريخ ولا تزال. فكثيرا من الشخصيات اللامعة في التاريخ، سواء ما كان سياسيا منها أو دينيا أو فكريا أو اجتماعيا.. تجد من يحيك حولها الأساطير وينسج منها تهاويل تروق للمؤرخ غير المدقق فيثبتها في مدونته التأريخية ولا يمحص الخبر قبل كتابته. فلنأخذ أمثلة. سقراط، حكيم يوناني وفيلسوف معروف، حكم عليه بالموت في أثينا لأسباب عديدة منها إغواء الشباب والاستهتار بالآلهة والاستخفاف بالقيم السائدة. حدث، وهو في السجن، أن احتال له تلامذته لكي يهرب، ولكنه أبى ورفض، لاحترامه الشديد للعدالة. وفي النهاية اضطر سقراط لشرب «سم الشوكران» حيث اختار هذه الطريقة للموت. هذه القصة، رغم إمكانية وقوعها، إلا أنها ألهمت الخيال البشري وجعلت سقراط أسطورة وليس بشرا، والرؤية التاريخية النقدية هي وحدها التي تتعامل معه كرجل اشتهر بالنزاهة والصدق وحب العدالة فقط. جاء بعده سياسي محنك من مقدونيا اسمه «الإسكندر»، كان طموحا جدا، وكان ذا عبقرية لا تخفى على أحد، وهذه العبقرية بحد ذاتها والطموح الأسطوري لغزو العالم جعلته يتبوأ مكانة ( فوق بشرية)، والغريب أن المؤرخ المعاصر لا يزال يتعامل معه على هذا النحو. في التراث العربي القديم كانت الأساطير تحاك مع ظهور بطل أو عبقري أو ولي من الأولياء، فتعمل ملكة التهاويل عملها، وتبدأ في إطلاق النعوت غير البشرية عليهم. حينما قتل الحسين اغتم المسلمون لذلك وأصابهم الذهول والحزن على حفيد النبي عليه السلام، وحيكت الأساطير حول موته وحول قيامتِه بعد الموت ونحوها، بل إن أحد المؤرخين المعروفين ينقل، دون تمحيص نقدي، أخبارا لا يقبلها العقل؛ حيث توقفت الشمس في الأفق وحيث إن كل من رفع حجرا وجد تحته دما.. وهناك شخصية غريبة، فهو ليس شعبيا كالساسة أو الشعراء، بل هو فيلسوف. واقصد «الفارابي»، وربما يكون السبب هو اشتهاره بالزهد والورع، فقد كان يختلف إلى بلاط سيف الدولة الحمداني، وهو بلاط له صيت طيب في تاريخ الأدب العربي، إذ يجتمع به المتنبي وأبو فراس والخالديان والببغاء والوأواء الدمشقي وابن خالويه وكثير من الأدباء والعلماء. وكانت النفوس تهفو إلى الحظوة والزلفى لدى سيف الدولة، وإلى نوال الهدايا السنية والأموال. ومما يذكره المؤرخون أن الفارابي لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم، ويرد الباقي. من التهاويل التي رافقت سيرته أنه كان يجيد سبعين لغة، وأنه دخل مجلس سيف الدولة فغير وحرك في الآلات الموسيقية التي معه، فعزف عليها فأضحك الجميع، ثم صنع حركات أخرى وعزف عليها فأبكى الجميع، ثم عزف ثالثة فنام الجميع، فتركهم وخرج. أعتقد أن القصص المشابهة لهذه النوعيات كثيرة، وكلكم تعرفونها جيدا. في العصر الحديث عملت العاطفة المشبوبة عملها وصنعت تهاويل لم تعد تناسب عصر العلم والعقل والتقنية. وقد سمعنا من ضمن ما سمعنا أن الزعيم النازي هتلر لم ينتحر وأنه ظل طليقا وحيا، ولم يمت إلا مؤخرا، وثمة نسخة مشابهة عربيا مع الزعيم العراقي صدام حسين الذي لا يزال البعض يعتقد يقينا أنه لم يمت !. هكذا تعمل المخيلة والعاطفة الحزينة أو السعيدة عملها، وهكذا يحاول الناس أن يداووا جراحهم بالتهاويل، أو أن يعبروا عن إعجابهم بشخصية ما بالتهاويل. وكل القصص والحكايات المثيرة التي يؤلفها مؤلفون يسعون إلى الربح من خلال التلاعب بمشاعر الناس كلها تهاويل في تهاويل، قد تصل إلى حد الكذب الصريح، ولكن، دائما، هناك من يصدق ومن يبتاع البضاعة الفاسدة لتخلصه من آلامه.. وإذا كان هذا مقبولا من أناس بسطاء وأميين لم يتلقوا المنهجية العلمية الصارمة فماذا نقول لمن أفنوا سحابة أعمارهم في البحث العلمي، وانتهوا إلى التصديق بالتهاويل المنافية للعقل والمنطق والواقع ؟!. أجل، هناك علماء متخصصون في مجالات صارمة، ولكنهم لا يجدون غضاضة في قبول تهويل من تهويلات الصحافة أو الإعلام أو القصص الشعبية. يذكر فؤاد زكريا أن علماء في الفيزياء والبيولوجيا لا يتورعون عن وضع الودع والتمائم في مكاتبهم وفي منازلهم، ويعتقدون بها الضر والنفع. التهويل الخطير الذي أود أن أختم به المقال يتعلق بالسياسة والإعلام هو المنتج الحقيقي لها. لقد وقع في الظن أن الساسة والخبراء والدبلوماسيين يعرفون كل شيء مما يدور حولنا، وأنهم هم وحدهم من يمتلكون الحقائق وأنهم يخفونها عنا، وأن السياسي هو المدبر لكل شيء. إلا أن الأمر ليس كما نتصور، فالساسة أيضا، كما أشار إلى ذلك كريستوفر نوريس، يخضعون لتهاويل الإعلام كما نخضع نحن. وقد استشهد بحرب الخليج الأولى، حيث كان بوش (الأب طبعا) وجون ميجر واستراتيجيو البنتاغون يتلقون كثيرا من المعلومات حول الحرب عن طريق وكالة ال CNN وليس من أرض المعركة !. في النهاية ليس هناك ما هو غير بشري على كوكب الأرض وحيث يحيا الإنسان مع أخيه الإنسان. والرؤية العقلية النقدية الصارمة هي العلاج الوحيد للقضاء على التهاويل التي هي الطريق لنشوء الخرافات والأساطير التي تحاك حول الشخصيات والأحداث والمواقف التاريخية. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة