في الحلقة الأولى للمسلسل الشهير (طاش 17) والتي كتبها زميلنا المبدع خلف الحربي بعنوان (ارفع رأسك)، جذب انتباهي حوار يتكرر حول «المساواة» بين المواطنين. ولكن لفظة «المساواة» هنا ليست كما يوحي بها ظاهر الحوار. فمن حيث الظاهر فإن «المساواة» مطلب حضاري راق وكلنا نصبو إليه، ولكن السياق الذي وردت فيه هذه اللفظة يحيلنا على معنى مرذول ومذموم، وهو معنى يؤسس لفكرة المساواة على أساس واه. ولكي نفهم جيدا هذا الأساس الواهي الذي جعل معنى المساواة في سياق مسلسل طاش مرذولا فإن علينا أن نبدأ بالأساس الذي تقوم عليه فكرة المساواة الحقيقية التي قلنا إنها مطلب حضاري وروحي للشعوب. فالمساواة الحقيقية تنهض على أساس قانوني عام، صادر عن إيمان عقلاني بأن البشر ذوو طبيعة واحدة، ومن (طينة) واحدة. ولكن هل هذا يكفي ؟! هل يكفينا أن نقول إن الناس ولدوا أحرارا مثلا ؟ كلا، فهذه الحقيقة البينة لا تكون لها قيمة إنسانية ما لم يبن عليها النظام القانوني والحقوقي. فالمساواة بين البشر في طبيعتهم تعني بالتالي المساواة أمام القانون، دون مراعاة لعرق أو دين أو جنس أو لغة. أن يتساوى الناس أمام القانون أولا، تليها المساواة في فرص العمل، ونحوها من النتائج المترتبة على تلك الحقيقة البسيطة. ومعلوم أن المساواة أيضا لا تفرق بين ذكر وأنثى، بل يختلف الناس في مهاراتهم وقدراتهم وحسب. هذا النمط من المساواة ليس موجودا للأسف في مجتمعنا إلا بنسبة ضئيلة. وهي ليست المقصودة في مسلسل طاش. فالمساواة التي أشار إليها المسلسل قائمة على مبدأ مختلف تماما عن المبدأ السالف. لكي نفهم المبدأ بشكل أوضح، دعونا نستعيد مشهدا من مشاهد الحلقة: عدنان المستثمر الأجنبي يحظى بامتيازات كثيرة لا ينالها السعودي. وكان الموظفون السعوديون قد تعودوا على هذا الوضع، فصار ليس غريبا أن ينال هؤلاء المغتربون فرصا أوفر وحظا أغنى لا يناله أبناء الوطن، وإن كانت في النفوس حسرة مدفونة تحت رماد القناعة والرضا. ولكن (عدنان) ما إن حصل على الجنسية السعودية حتى تغيرت المفاهيم وانقلبت الموازين؛ إن عدنان الآن سعودي، وعليه فينبغي أن (يتساوى) معنا في الخير والشر، وإن كان ولا بد ففي الشر وحده، المهم ألا يتفوق علينا. وهذا ما حدث فعلا، ولو كان عدنان يعلم بما سيحل به لما سعى في ما سعى إليه. إن المساواة هنا تنهض إذن على عامل نفساني، وبصورة أدق : تنهض على الحسد والغيرة. فهي مساواة مرذولة، ذات أساس واه. فالمساواة التي أصلها الحسد والغيرة شيء معروف لكل ذي بصيرة. فالرجل الغني، مثلا، يكون محلا لنظرات الحاسدين والغيورين. ولن يتوقف الحاسدون عن حسدهم حتى يخسر الرجل ما لديه من ثروة أو جاه أو علم، فيصير مثلهم، وعندئذ يصير محبوبا لديهم لأنه منهم وفيهم. هذه الحقيقة السيكيولوجية وهي موجودة في كل المجتمعات تفسر لنا كثيرا من الظواهر النفسية والمقولات الاجتماعية والأمثال الشعبية. فلكي أكون محبوبا يجب أن أكون مع الناس وأن أقلدهم في الخير والشر، وأن أقلد النماذج الاجتماعية التي يرتضونها. ولعلكم تذكرون المثل الشهير (زمار الحي لا يطرب)، وهو مثل يمكن تفسيره الآن بيسر وسهولة، فالحسد الذي يؤسس للمساواة المرذولة هو حل اللغز. فهل نحن قادرون على التحرر من هذه الآفة النفسية الخطيرة التي تجعلنا نحتقر بعضنا بعضا فلا نر في المواطن أية مهارة أو قدرة، بينما نراها في الأجانب حتى ولو كانوا عاطلين عنها ؟!. قلنا إن هذه الآفة موجودة في كل المجتمعات، ولكنها في مجتمعنا وبقية المجتمعات «المتأخرة» و «الكسولة» موجودة بكثرة. دعونا نكون صرحاء أكثر.. ولننظر إلى إخواننا اللبنانيين مثلا. لم أشاهد قناة إعلامية من قنواتهم أو أقرأ مجلة من مجلاتهم إلا وجدتهم يعدون أنفسهم أرقى الشعوب، وأن أطباءهم أفضل الأطباء، وأن شعراءهم أعذب الشعراء، وأن مطربيهم أحسن المطربين. وقد استغربت منهم وهم شعب عربي في النهاية كيف يمجدون بعضهم بعضا ويثقون في أنفسهم وفي أقرانهم وأبنائهم، بينما نحن السعوديين نحتقر السعودي ولا نراه شيئا. كلنا نتبادل هذا الاحتقار !. لا أقول: فلنكن كاللبنانيين، فهم يسرفون في تمجيد أنفسهم بصورة ممجوجة أحيانا، ورغم أن لديهم مبدعين وخبراء أكفاء في مجالات شتى، إلا أنهم ليسوا أسياد العالم؛ كما يظن ذلك الشاعر الطاعن في الوهم: سعيد عقل. نحن لدينا مثلما لديهم وأكثر، ولكننا مع ذلك لا نزال خاضعين لتلك المشاعر النفسية المريضة التي ورثناها قبل عقود إبان الكسل والرخاء المزيف. إنني ألتمس في كل صغيرة وكبيرة «عقدة الأجنبي» التي لم تبارحنا بعد، ولكن هذه العقدة كانت قديما مبررة أيام الجهل والتواكل. أما اليوم، وبعد أن أصبح السعودي أكثر قدرة ومهارة وعلما وإبداعا من ذي قبل فما مبرر هذه العقدة ؟! إننا لن نجد المبرر هذه المرة في (قوة أو علم الأجنبي) التي يقابلها (ضعف أو جهل السعودي)، وإنما مبررها الذي تتغذى منه هو ما كشفت عنه حلقة طاش D الرائعة: المساواة السعودية المرذولة. لا يهمني أن يكون القضاء على آفة الحسد (حسد الأخ لأخيه وابن بلده) هو عمل طوباوي وخيالي، فلنبادر وحسب، ولنعد ترتيب أوراقنا المطوية داخل نفوسنا ولنحررها من هذا الداء الأسود الذي مازال ينقش فيها عبارات ومقولات محبطة وساخرة ومستهترة. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة