** لم تكن تلك الصباحات الجميلة والممطرة في مدينتي الصغيرة.. تغيب.. أو تختفي من ذهني.. ** كان يكفي أن أدفع قليلا.. حاجز الأيام والسنوات.. لتقف تلك الذكرى أمامي بكل خيرها.. وشرها.. ** كان البحر أيامها طليقا.. والأرض والشواطئ أكثر اتساعا وما بين البحر وطيور مالك الحزين البيضاء.. والمدرسة العزيزية كان ثمة كوخ.. متهدم.. على الشاطئ أكلته الملوحة يقبع داخله كهل منحوت يدعى (أبكر مطري)، وكانت لعم أبكر.. نافذة كبرى مشرعة على البحر لا تغلق أبدا، فقد ترك جانبا من الكوخ باتجاه البحر عاريا تماما والجانب الآخر.. غطته ألواح خشبية لاتقاء (الشارقة) صباحا وحرارة الشمس.. ** وكنا نستغل فرصة الفسحة الكبرى أثناء الدراسة ونتسلل تباعا إلى كوخ العجوز.. الذي يقدم لنا البيض المسلوق.. والشاي الأسود.. وما كان عم أبكر يأخذ ثمنا كبيرا لوجبة الصباح هذه.. كان يكفيه نصف قرش إن وجد وفي الغالب لم تكن معنا نقود.. ** وكان عم أبكر يروي لنا حكايات.. عن البحر وأهواله وغرائبه.. وكان يرى أن أستاذ الفقه الشيخ محمد عقيل.. قد تعلم القراءة والكتابة.. وحفظ القرآن الكريم.. بدون معلم وبدون أن يدخل المدرسة وكذلك أبوه.. وهو يروي عن هذا قصة تشبه الأساطير.. ** يقول: إن والد الشيخ محمد عقيل رحمه الله قد ضل بقاربه في البحر.. وبقي ثلاثة أيام.. غائبا عن المدينة.. وعندما عاد فجرا ذات يوم.. فوجئ به أقاربه وأهل جيزان.. يحفظ القرآن بكامله.. والسيرة النبوية.. والأحاديث، وكان قبل ذلك.. أميا لا يفك الحرف.. وبالكاد يقرأ فاتحة القرآن.. ولكنه عاد من البحر عالما، ويؤكد أنه صحا من نومه وهو يحفظ كتاب الله.. وقد سأل الله ذلك الشيخ أن يكون العلم.. في أسرته متوارثا.. وهكذا نشأ الشيخ محمد عقيل عالما منذ صغره.. وقد توارث هذا العلم أبناؤه من بعده، فمنهم الطبيب.. والمهندس.. والعالم، وعندما شاهدت.. الدكتور عبدالرحيم عقيل رحمه الله سألته.. عن حكاية العم أبكر مطري هل هي صحيحة.. وتفحصني الدكتور عبدالرحيم.. وقال بهدوء: كلنا نعشق البحر هنا.. وكلنا تعلمنا منه الكثير.. وأهمها الصبر.. والجلد.. والكفاح.. ولكني دخلت كلية الطب.. وتخرجت طبيبا منذ أكثر من ربع قرن.. ولا أزال أمارس مهنة الطب. .. والبحر يا صديقي لا يتخرج منه أطباء ولكنه قد يعلم الرجال الكثير من الحكمة.. قلت له: ولكنك لم تجبني كيف تعلم جدك وأبوك؟ قال: لقد علمهم البحر.. وصمت الدكتور عبدالرحيم.. وكأنه يخفي سرا لا يود البوح به.. وعدت أتطلع.. إلى أمواج البحر.. وخلفي بوابة أكثر اتساعا.. لمن يود أن يعرف.. أو يتعلم!! رحم الله الدكتور عبدالرحيم عقيل رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.. لقد رحل إلى لقاء ربه قبل سنوات ولم يخبر أحدا عن سر أبيه العالم الجليل وجده.. أم أن البحر لا يبوح بأسراره لأحد..؟ للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 الاتصالات أو الرقم 636250 موبايلي أو الرقم 737701 زين تبدأ بالرمز 254 مسافة ثم الرسالة