مطلع العام هذا، اعتادت الصباحات الكثيرة التي فيها، نكأ غرائز التوديع فينا، وحفر ملامح الرحيل أكثر. رحل الروائي الأمريكي الجميل «سالينجر»، تاركاً «حقل الشوفان» دونما حارس، والإعلام دونما صورة واضحة وملونة له، في درس لرجال الشاشات البررة. ثم رحل في الرياض، آتياً من القاهرة، «محمد سيد طنطاوي». شيخ الأزهر، الذي كان أكثر «طيبة» وأكبر قدراً، من مناوشات منصب كهذا. ليلحقه المصري الآخر، «فؤاد زكريا»، عالماً كبيراً، ومناوشا كذلك، بعد أن أخبرنا عن «عمر الغضب»، ولم يخبرنا، أو يخبر نفسه بالأصح عن عمر الموت. لننفجع أكثر، ونحن نودع ناقد العقل العربيّ «محمد الجابري»، منقصاً للمجموع العقلي، تاركاً جنائن القرآن العظيم، كبستاني حديث وماهر، لما يكمل غراسه اليانعات فيها. تمر أيام، وتودع مصر الضاحكة، «الولد الشقيّ»، محمود السعدني، مخلفاً وراءه حزناً يوازي حجم الضحك المرير الذي كان ينسج على شفاهنا ومخيالنا. يلحقه بعدها، في نفس الشهر، «أسامة أنور عكاشة» لتهتز الشاشة - التي خضها كثيرا -، بموته أكثر. تمر أيام يسيرات. تودع السعودية بعدها، الأصولي البارز، رجل الفقه، والاستشراف: «عبدالله بن غديان». بعد 84 عاماً من الحياة والعلم والأصول والتنقيح والتذهيب. بعد ذاك، يتوارى الفريد «ساراماغو». بعد أن أبصر «العمى». يترك «فيله» يرعى. وشعبه يودع البطولة العالمية للكرة، لانفرادها بلاعب وحيد مميز، كما هي في الأدب، سواءً بسواء. أيام يسيرات، ويرحل أديب كبير أيضاً. «اعتزل» الضجيج، ليتقن الجودة. مبرهناً على نموذجية الشاعر الفلاح. المنقب في البيادر والمعاجم، سواء بسواء. الناسج أبياتاً وزهوراً. قصائد وحصائد. عناوين رائعة، وسنابل يانعة. الأشعث: «محمد عفيفي مطر». مخلفا الليالي الموحشة، والقمر الحزين، وخماسية الحزن. قبل أسبوع. «أستودعكم الله» يقولها ويرحل، العلامة الشيعي «محمد حسين فضل الله»، تاركاً أكثر من 100 كتاب وراءه وأمامه. وأكثر من ذلك: أيتاما ومحتاجين، كان لهم أباً وراعياً وشيخاً ورجلاً من الصالحين. بنفسي كم تعجبت واقفاً على حجم مشروعاته، من بيروت وإلى الخرطوم. وعطاءاته، حتى لا تدري أهو رجل العلم أم العمل. الدين أم الدنيا. أم -وإلى هذا أميل - رجلها الراحل عنها كلها. توريات تواري بعضها بعضاً. تنهد جسورنا، تذوي زهورنا. تنطفئ فناراتنا، وتقصر مناراتنا. وعلينا التعويض في زمن بخس. يأخذ أكثر مما يعطي. وينقص أكثر مما يزيد. كلما مات منا سيد، لم يقم أحد بدلاً منه. هنالك فقر في الدم والرجال والتاريخ. هكذا يتبدى لي الأمر. خصوصاً في الصباحات التي يباغتك السؤال فيها: «هل تعرف من مات اليوم». لتتهادى قاطرة الكبار، شاحنة شاحنة تنفصل. والمسيرة لما تواشك الوصول. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 252 مسافة ثم الرسالة