لا يزال الأمر السامي بإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، يجد رجع صداه في قلم العديد من المختصين، استشرافا لآثاره المستقبلية، وتنقيبا عن أنواع وإمكانيات الطاقة المتجددة في المملكة. طاقة الرياح هي أحد أشكال الطاقة المتجددة التي يلزم الانتباه إليها. ويعرض هذا المقال مع مقال لاحق بمشيئة الله مسحا ميدانيا للتطورات التي لحقت بهذه الطاقة عالميا، وأحدث تقنيات إنتاجها، وحدود وإمكانيات استخدامها في بلادنا. هناك ظاهرتان مناخيتان تتسببان في الجزء الأعظم من رياح العالم، تتمثل الأولى في نشوء نمط ضخم لدوران الهواء من سحب الهواء القطبي البارد نحو المنطقتين المداريتين، ليحل محل الهواء الأكثر دفئا والأخف الذي يصعد ثم يتحرك نحو القطبين. وتنشأ مناطق ضغط عال ومناطق ضغط منخفض، وتعمل قوة دوران الأرض على دوران الهواء في اتجاه حركة عقارب الساعة في نصف الكرة الجنوبي، وفي عكس اتجاه حركة عقارب الساعة شمال خط الاستواء، وهذان الخطان هما المسؤولان عن سمات الطقس الرئيسة كالرياح التجارية المستمرة في المناطق المدارية، والرياح الغربية السائدة في المناطق المعتدلة الشمالية. أما الظاهرة الثانية فهي أن الهواء الذي يعلو المحيطات لا يسخن بالقدر الذي يسخن به الهواء الذي يعلو البر. وتنشأ الرياح عندما يتدفق هواء المحيط البارد إلى البر ليحل محل الهواء الدافئ الصاعد، والنتيجة النهائية هي نظم للطقس غير مستقرة ودائمة التغير، وبالتالي فإن طاقة ضوء الشمس الحرارية تتحول باستمرار إلى طاقة حركة للرياح، ولكن هذه الطاقة تتغير عن طريق الاحتكاك مع سطح الأرض وفي داخل الرياح ذاتها، وجزء صغير من طاقة الرياح هو الذي يمكن الاستفادة منه فعلا، فمعظم الرياح تهب في الارتفاعات العالية أو فوق المحيطات، وعلى ذلك فهي بعيدة المنال. تسخير طاقة الرياح ليس فكرة جديدة، فقد استخدمت في السفن الشراعية، وظهرت بعدها طواحين الهواء، وهي آلات تستلب طاقة الرياح، لتؤدي أعمالا ميكانيكية متنوعة. وتظهر أول إشارة لطواحين الهواء في كتابات العرب في العصور الوسطى، فقد وصفوا آلات ريحية بدائية في فارس في القرن السابع الميلادي، وقد طورت آلات مماثلة لها في الصين، واستخدمت منذ 2000 عام على الأقل، وأدخلت طواحين الهواء في أوروبا قبل القرن الثاني عشر، وبحلول القرن الخامس عشر وجدت أشكال متطورة من هذه التقنية في جميع أنحاء أوروبا، وفي هولندا بلغ عدد الآلات التي كانت مستخدمة في تلك الفترة نحو 12 ألف آلة. وفي العصر الحديث أصبحت طاقة الرياح مجالا سريع النمو، حيث أسفرت الجهود والطموحات التي بذلت خلال السبعينيات في البحث والتطوير عن عدد كبير من الدراسات الحديثة التي أثبتت أن طاقة الرياح مصدر عملي للطاقة (الكهرباء). فيجري الآن تركيب أعداد ضخمة من التوربينات التي تعمل بالرياح في كثير من البلاد العربية للمرة الأولى منذ ما يزيد على 50 عاما. ولهذه التوربينات سوق ضخمة تزداد نموا في المناطق النائية، حيث الكهرباء وقوى الضخ التي تمد بها محركات الديزل الشبكات الكهربائية الصغيرة باهظة الثمن. فمضخات الري التي تعمل بالرياح تنتشر الآن في قارة أستراليا وأجزاء من قارة أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية. وربما تستخدم الرياح في القريب العاجل لتوليد الكهرباء في المزارع والمنازل بتكلفة أقل مما يتقاضاه مرفق الكهرباء المحلي. وقد يتطلب إسهام التوربينات الريحية الكبيرة بقسط وافر في إمداد الطاقة العالمي وقتا أطول قليلا. فهذه التوربينات ليست آلات بسيطة حيث إنها تتضمن أعمالا هندسية متطورة، بالإضافة إلى نظم تحكم ترتكز على الحاسبات الإلكترونية الدقيقة. وهناك شركات متعددة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبلاد أخرى لديها برامج بحثية في مجال الطاقة الريحية، وخطط عديدة للاعتماد على هذا المصدر للطاقة. إن الظروف مهيأة لكي تنتقل هذه التقنية سريعا من مرحلتي البحث والتخطيط إلى الواقع التجاري. وقد تتوافر قريبا عشرات الملايين من التوربينات والمضخات الصغيرة التي تلبي احتياجات مناطق العالم الريفية، ومن الممكن ربط مجموعات من الآلات الريحية الكبيرة بشبكات الكهرباء التابعة لشركات المنافع العامة. ويمكن لبلاد متعددة خلال السنوات الأولى لهذا القرن أن تحصل على ما بين 20 و30 في المائة من احتياجاتها من الكهرباء بتسخير طاقة الرياح، وسيكون لتقنية طاقة الرياح الحديثة التي تستغل هذا المصدر النظيف الاقتصادي المتجدد للطاقة مكانها في عالم ما بعد النفط. تعتمد الطاقة المتاحة في الرياح بصورة حاسمة على سرعتها، حيث تتضاعف الطاقة إلى ثمانية أمثالها كلما زادت سرعة الرياح إلى المثلين. والمتوسط السنوي لسرعة الرياح يتفاوت بين أقل من ستة أميال في الساعة في بضع مناطق إلى 20 ميلا في الساعة في بعض المناطق الجبلية والساحلية. والسرعات التي تبلغ أو تزيد على 12 ميلا في الساعة في المتوسط هي السرعات المناسبة لكي تكون الآلة الريحية المولدة للكهرباء اقتصادية. وتبلغ طاقة الرياح الكونية المتوقعة ما يعادل تقريبا خمسة أضعاف الاستخدامات الكهربائية الحالية على مستوى العالم، وحيث إن القوى المتاح توليدها من الرياح ترتفع بارتفاع مكعب سرعة الرياح فإن المناطق ذات الرياح الشديدة سوف تشهد تطورا كبيرا في هذا المجال. الريح مثلها مثل باقي أنواع الطاقات المتجددة لا يمكن الاعتماد عليها بصفة مستديمة، فأية بقعة على الأرض قد تتعرض لرياح عالية في بعض الأوقات وقد تتوقف في أوقات أخرى. وللتغلب على مشكلة تذبذب الطاقة نتيجة لتغير سرعة الريح يجب أن يواكب برنامج إنشاء محطات قوى تعمل بطاقة الريح برنامج آخر لحفظ الطاقة، إما على صورة طاقة كهربائية في بطاريات، أو طاقة ميكانيكية تستخدم في رفع المياه إلى أعلى فوق جبل مثلا ثم إعادة استخدام هذه المياه في توليد الكهرباء عندما تضعف الرياح. يتطلب معرفة ذلك التطرق بشيء من التفصيل لآخر ما توصلت اليه تقنية تصنيع التوربينات الريحية، وحدود وإمكانيات تطبيق هذه التقنية في المملكة، وهو ما سيكون موضوع مقال لاحق بمشيئة الله. د. ناصر بن سعد العريفي أستاذ الجيوفيزياء في جامعة الملك سعود [email protected]