ثلاثة من قدامى المحاربين يسردون ذكرياتهم أيام عملهم في الجيش السعودي في ذلك الوقت، ضاربين أروع المثل في ما ينبغي أن يكون عليه الجندي، من تفان وإخلاص في الدفاع عن الوطن حدّ التضحية بأغلى ما يملك في سبيله. رغم تقدم المحارب أبو طالب علي البكاري في السن، ما يزال يحن إلى ساحات المعارك ودوي المدافع وهدير الدبابات والطائرات، حيث قاتل في ثلاثة حروب، وشارك في معركة الوديعة على الحدود الجنوبية وأصيب بشظية أفقدته عينه اليسرى، وفي رحلته العلاجية إلى تونس رفض زراعة عين صناعية بديلا عنها، مفضلا العيش بعين واحدة. وأكثر من خمسين عاما قضاها المحارب الثاني عبد الرحمن بن ناصر ظافر الأسمري من بللسمر في عسير، في خدمة الجيش ما بين تبوك وجازان وخميس مشيط، فعند بلوغه السابعة عشرة من عمره، سافر إلى حائل ليلتحق بالخدمة العسكرية، ولم يمض العام على قبوله في الجيش، حتى اندلعت الحرب بين إسرائيل ومصر، فتم نقله مع كتيبته إلى تبوك، فيما تم عام 1376 إضافته إلى اللواء العاشر الذي كان يسمى وقتها «فوج حائل» قبل أن يُسمى باسمه الحالي. ويستعرض الثالث زهير بن غيثان الشمراني من النماص من منطقة عسير تجربته في الخدمة العسكرية قائلا «التحقت بعد وصولي إلى مكة لأول مرة بالحرس الملكي براتب (20) ريالا فضة، ولكن لم استمر فيه لأكثر من عام، حيث انتقلت إلى جدة لألتحق بالجيش في حي المطار القديم، وتدرجت حتى وصلت إلى رتبة (شاويش)، لكوني صارما في عملي، وفي تنفيذ التعليمات والأوامر العسكرية، اختاروني مدربا لمجموعة من الجنود، وأسند لي مهمات تدريب فرقة من الشرطة. شظية أفقدته عينه اليسرى في تفاصيل هذه الذكريات يعود أبوطالب البكارى من محافظة صبيا في منطقة جازان، ليروي أنه أغمي عليه ذات معركة، وبعد أن أفاق من غيبوبته أخبره زملاؤه، بأنه كان الناجي الوحيد، بينما استشهد من كانوا معه في تلك المعركة. ويستطرد: شاركت في ثلاثة حروب من ضمنها حرب الريث وفي مشاة البرية، بعدها نقلت إلى الرياض، حيث عملت في المصانع الحربية في محافظة الخرج، ثم غادرت لنجران وتنقلت مابين الخميس والرياض، ثم عدت إلى الجنوب، حيث شاركت في حرب الوديعة، وكنت قد تسلمت من القيادة جيب 106، وأثناء المعركة أصبت برصاصة إخترقت كتفي الأيمن وخرجت من الظهر، إضافة إلى إصابتي بشظية في العين اليسرى أفقدتني الإبصار، بينما استقر جزء من الشظية في رأسي، وما تزال حتى يومنا هذا، حيث أوصاني الأطباء بعدم استخراجها لخطورتها على حياتي. يعود عبد الرحمن الأسمري ليروي أنه كان على رتبة وكيل رقيب عندما تم توزيعه وزملاؤه، بعد نقلهم إلى تبوك على الحدود الساحلية من عقبة الأردن إلى ينبع تحسبا لأي اعتداء على الحدود الغربية الشمالية، كان ذلك في عهد الملك سعود رحمه الله وكان الأمير مشعل بن عبد العزيز آنذاك وزيرا للدفاع والطيران. وأضاف الأسمري أن قائد الكتيبة العقيد محمد بن عبد العزيز البغدادي جمع حينها أفراد الكتيبة وقال لهم: عليكم أن تكونوا خلال 48 ساعة على أهبة الاستعداد للمغادرة إلى منطقة ما، وإنفاذا للأمر أوصلنا عائلاتنا إلى أهاليهم استعدادا للمغادرة، وحلقت بنا الطائرة فوق البحر الأحمر لا نعلم إلى أين، ولكن إذا بها فجأة تهبط بنا في مطار جازان، كان ذلك عام 1387ه، في عهد الملك فيصل يرحمه الله . ويسرد الأسمري من المواقف الطريفة التي مرت به أثناء فترة خدمته في الجيش، أنه قرر أن يذهب بنفسه إلى القائد في الرياض الذي كان وقتها العقيد ضيف الله الشهري ليطلب منه العودة إلى تبوك، وأثناء دخوله عليه، كان من محاسن الصدف أن اتصل به في تلك اللحظة قائد اللواء في تبوك يطلب منه نقل رئيس رقباء إلى الخميس وتوفير بديل في تبوك، فما كان إلا أن صدر فورا قرار بنقلي إلى تبوك ورئيس الرقباء إلى الخميس. ومن المواقف الصعبة يتذكر الأسمري صدور أمر بسفرهم إلى الأردن، قال لنا القائد: يجب أن تكونوا على استعداد للدفاع من الغزو الإسرائيلي على منطقة الكرامة، ومن ثم تمركزنا في منطقة يُقال لها (أدر) غرب الأردن، تُطل على البحر الميّت، فتقدمت القوات وأطلقت النار بشكل مكثف ومستمر وكان من بين المقاتلين في الجيش الرائد عبدالله بن عبد الرحمن الأسمري (متقاعد حاليا ويُقيم في جدة)، كان مدفعجيا من الطراز الأول لتميزه من بين القوات بإصابة الأهداف بمهارة عالية، فأثخن العدو الإسرائيلي بنيران مدفعه وقتل منهم الكثير. ويضيف الأسمري: وبعدما شاهد العدو هذا السيل من النيران والقذائف فرّ جنوده منسحبين من المنطقة، وبعدها عُدنا للوطن سالمين غانمين، وعدت إلى تبوك وبقيت بها إلى أن تقاعدت عام 1407ه. يعود ابن غيثان الشمراني الذي ارتبط بثماني زيجات أنجب خلالها 15 بنتا و10 أولاد، ليتذكر أيام الجوع والجدب، والعيش في المدينة، فلم يجد أفضل من حياة القرية البسيطة، فعاد إلى مسقط رأسه أدمة شمران بين أهله وأصدقاء طفولته، ويقول «بعد خمسة أعوام قضيتها في خدمة الجيش، اشتد بي الحنين إلى أهلي وموطني الذي عشت وترعرعت بين جوانحه، فاضطررت للعودة مرة أخرى إلى بلدتي، وعملت فيها بمهنة الزراعة إلى جانب رعي الأغنام، فهي المهنة القريبة والمحببة إلى نفسي. من المواقف الصعبة التي مرت به في حياته، يتذكر الشمراني: ذهبت في أوائل الخمسينيات واثنان من جماعتي قاصدين مكةالمكرمة مشيا على الأقدام لمسافة 400 كلم، كانت رحلة مرهقة بمعنى الكلمة، حيث توقفنا أكثر من مرة، وأذكر أثناء مرورنا ببلدة (قيا) أن بلغ بنا الجوع أشده، حينها استضافتنا امرأة في بيتها، وقدمت ما يسدّ الرمق وأعاننا على مواصلة الرحلة إلى الطائف التي توقفنا فيها لبعض الوقت، وبزوغ الفجر واصلنا سيرنا عبر الهدا وجبال (الكر) حتى استغرق وصولنا إلى مكة يوما كاملا من الفجر إلى قبيل المغرب.