تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 25 مايو 1981م مثل خطوة تاريخية في الاتجاه الصحيح وقد واجه منذ قيامه تحديات خطيرة تمثلت في حرب الخليج الأولى (1980م 1988م) بين العراق وإيران، وما رافقها من تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية خطيرة تأثرت بها كافة الدول الخليجية، ثم جاءت حرب الخليج الثانية حين أقدم النظام العراقي على اجتياح دولة الكويت وتشريد شعبها، وما تعرضت له منطقة الخليج من تهديدات ومخاطر جدية من قبل النظام العراقي وقد مثل التضامن والدعم الخليجي المشترك، وتشكيل التحالف الدولي، حيث تقاطعت المصالح الذاتية للدول الكبرى والتقت مرحليا آنذاك مع المصلحة الخليجية. غير أن العامل الرئيسي والحاسم في نجاح المواجهة ودحر العدوان وتحرير دولة الكويت هو الموقف السعودي المبدئي والمسؤول إلى جانب وحدة الموقف الخليجي وهو إحدى المآثر والإنجازات الكبرى التي تحسب لمجلس التعاون الخليجي. شهدت دول مجلس التعاون الخليجي في غضون العقود الثلاثة الماضية إنجازات ضخمة على صعيد التنمية وقطاع الخدمات والمشاريع الاجتماعية (صحة وتعليم) ومشاريع البنية التحتية، وفي القطاعات الصناعية والزراعية، وقدرت الاستثمارات الخليجية في عملية التنمية بأكثر من تريليون دولار خلال تلك الفترة، وأدت هذه الاستثمارات إلى تسارع معدلات النمو الاقتصادي التي تجاوزت 15 في المائة سنويا خلال الفورة النفطية منذ أواخر السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات وتجاوزت إيرادات دول الخليج 150 مليار دولار في سنة 1980م بعد أن كانت 20 مليار دولار في سنة 1970م، كما ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي في دول مجلس التعاون لتصل إلى حوالى 40 في المائة. غير أن دول الخليج ظلت ( ولا تزال ) معتمدة بصورة كبيرة على عائداتها النفطية حيث يشكل النفط نسبة تتراوح من 70 إلى 90 في المائة من الإيرادات العامة للدولة وعائدات التصدير وما بين 60 في المائة و 70 في المائة من الناتج الإجمالي وهو ما يجعل اقتصادات الدول الخليجية معرضة باستمرار للانكشاف والتراجع مع أي تغير أو تذبذب في أسعار البترول وهو ما شاهدناه إثر انهيار أسعار البترول في سنة 1998م، إذ تقلصت العائدات بنسبة 50 في المائة وانعكس ذلك في عجز موازناتها السنوية وتأثر وتراجع خطط التنمية ومشاريع الاستثمار الحكومية والخاصة وتدني الموارد المخصصة لقطاع الخدمات مما أدى إلى تقلص فرص العمل والتوظيف للمواطنين ورافقها أتباع سياسة ترشيد صارمة للحد من الإنفاق والاستهلاك كما استحدثت رسوم للخدمات وتم رفع أو تقليص الدعم عن بعض السلع والخدمات الأساسية. صحيح أن الدول الخليجية قد استعادت جزءا مهما من خسارتها نتيجة معاودة أسعار البترول للارتفاع في السنوات الأخيرة مما ترك آثارا إيجابية على صعيد الموارد المالية وتغطية العجز في الموازنات السنوية وتحقيق وفورات وفوائض مالية مهمة مما سمح بزيادة معدل الإنفاق في قطاعات حيوية (البنية التحتية والخدمات) وتسديد جزء كبير من الديون المستحقة (المحلية والأجنبية). غير أن أمام دول مجلس التعاون الخليجي التعايش مع حقيقة استمرار تذبذب وتأرجح أسعار النفط في السوق العالمية للنفط، والتي تتأثر بعوامل اقتصادية وسياسية وأمنية وطبيعية. وفي هذا الصدد فإن دول مجلس التعاون الخليجي معنية أكثر من أي وقت مضى بتطوير التعاون المشترك في كافة المجالات والذي يأتي في مقدمتها العمل على تنويع مصادر الدخل وخلق التوازن الاقتصادي الضروري مما يتطلب إعادة النظر في السياسات التنموية وتعديلها بما يتناسب والأوضاع المستجدة (عالميا ومحليا) والإمكانات الفعلية المتاحة وترشيد الإنفاق وتوجيهه توجيها استثماريا بهدف تجاوز ظاهرة الاقتصاد الريعي وحيد الجانب وضرورة إعادة التوازن والتكامل ما بين القطاعات الاقتصادية المختلفة من صناعة وزراعة وخدمات، والتركيز على إقامة المشاريع الصناعية والزراعية (مع الأخذ بعين الاعتبار ندرة وشح المياه والاستفادة من التجارب السلبية في هذا المجال) والخدماتية والتكنولوجية المشتركة بين دول الخليج وهو ما يستدعي إعادة هيكلة الصناعات والخدمات المتماثلة في دول المجلس وتوحيد الأنظمة والتشريعات والقوانين التجارية والصناعية والقضائية والحقوقية والشخصية وتسهيل حركة مرور الأفراد، ورؤوس الأموال وحرية التملك لمواطني مجلس التعاون. إن من شأن هذه الخطوات خلق الأرضية الضرورية لوحدة اقتصادية خليجية تتجاوز حالة التشرذم والتنافس الاقتصادي وتشجيع عودة مئات المليارات من الأموال والأرصدة والاستثمارات الخليجية من الخارج الأمر الذي يتطلب خلق بيئة استثمارية آمنة ومستقرة لتشجيع الاستثمار الخاص (المحلي والأجنبي) من خلال سن الأنظمة والقوانين وتطوير ودفع عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي والمعرفي، مع التركيز على أولوية توجه الاستثمارات المحلية والأجنبية نحو القطاعات الإنتاجية، والصناعات والخدمات القائمة على استخدام نظم المعلومات والتكنولوجيا الرفيعة. في العديد من البلدان الخليجية فإن القيادات السياسية هي التي دفعت (من فوق) باتجاه إضفاء التجديد والعصرنة على الأجهزة والمرافق والمؤسسات الحكومية وتطوير البناء السياسي والقانوني ومستوى المشاركة الشعبية، وفي بلدان أخرى فإن القيادات السياسية تفهمت مدى الحاجة إلى إحداث تغييرات وتعديلات باتجاه مزيد من الانفتاح والمشاركة الشعبية. وعلى وجه العموم فإن سقف ومستوى حرية الفكر والمعتقد والرأي والصحافة قد تحسن إلى حد كبير في عموم دول مجلس التعاون الخليجي، وبدأت تتشكل مكونات ومنظمات وهيئات المجتمع المدني في العديد من دول المجلس كالنقابات والاتحادات المهنية وجمعيات النفع العام والأندية والتجمعات الثقافية، وعلى هذا الصعيد فإن الحكومات والنخب ومؤسسات المجتمع المدني تتحمل مسؤولية في الدفع بهذا الاتجاه.. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل علينا أن نرسم صورة زاهية لمسيرة دول مجلس التعاون الخليجي؟ الجواب كلا فالرضى عن النفس يعني الجمود والسكون وعملية التغيير هي سيرورة دائمة لا تعرف التوقف والمراوحة، وتتحدد شروطها من خلال مستوى التطور في الوعي وامتلاك الإرادة لدى الجميع، ومن خلال التحولات النوعية في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الأمر الذي يتطلب تشجيع مختلف جوانب العمل والحوار والتفاعل الثقافي والفكري والحضاري المشترك بين القيادات والنخب ومكونات المجتمع الأهلي والمدني في دول مجلس التعاون على قاعدة التعددية والاحترام المتبادل وشيوع ثقافة التسامح وقبول الآخر وإرساء التفاعل البناء بين الحاكم والمحكوم على قاعدة عقد اجتماع جديد يحدد مهام وواجبات الدولة وحقوق وواجبات المجتمع والأفراد وينبغي على كل الأطراف العمل بجدية على رفع سقف الحريات العامة وتطويرالمشاركة الشعبية، وصيانة حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في العمل والتعليم والصحة وضمان حرية التعبير الفردي والجماعي، وضمان الأمن والاستقرار، وتفعيل عمل اللجان والهيئات القانونية والحقوقية في إطار من المكاشفة والمصارحة والشفافية وإفساح المجال للصحافة والأجهزة الإعلامية المختلفة لقيامها بدور رقابي وتنويري أكبر باعتباره يصب في اتجاه ترسيخ الهوية الوطنية وتمتين الوحدة المجتمعية والتطور المدني والسلم الأهلي.. من الأهمية بمكان العمل على تجاوز السلبيات والحساسيات التي تكتنف مسيرة العمل الخليجي المشترك سواء على صعيد العلاقات ما بين الشعوب أو بين الدول وحل الخلافات والمنازعات إن وجدت عبر تنشيط دور هيئة تسوية المنازعات (المادة العاشرة) التابعة للمجلس واعتماد لغة الحوار السلمي والأخوي لحلها. ومن المهم إبلاء الاهتمام بتطوير العمل المؤسساتي لمجلس التعاون الخليجي وأمانته العامة وتطوير آليات عملها والانفتاح على النخب الخليجية والتفاعل معها في كل القضايا الحيوية التي تهم حاضر ومستقبل شعوب المنطقة. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة