كثر الحديث أخيرا عن رسم الشخصية السودانية في الفضائيات العربية، سواء أكان الأمر دراما جادة تستوجب وجود شخصية سودانية مشاركة، أو مزحا في برامج مازحة كالكاميرا الخفية وغيرها. تلك الشخصية الكاريكاتورية التي يدهن وجهها بلون أسود غامق، وتمنح تهتهة في الكلام، وتكسرا في اللغة العربية، وسذاجة في الحوار، وتكاسلا حتى في تلك التهتهة وتكسر اللغة. وبالرغم من انخراط السودانيين بحكم عروبتهم الأكيدة وإسلامهم الذي هو عقيدة راسخة في كل شأن يخص العرب والمسلمين، إلا أن ذلك لم يجد، وتصبح تلك الشخصية التي رسمها البعض وانتشرت بشدة عائقا يحز في النفس، وتجعل شعبا عريقا يتنفس بصعوبة وسط الأنفاس العربية الأخرى، ويوصف بالحساسية الشديدة حين يشتعل بالغضب. لكن من رسم تلك الشخصية حقيقة؟ ومن ساهم في انتشارها؟ وهناك شعوب أخرى لو رسمت بنفس تلك المواصفات أو مواصفات أخرى غير لائقة لما صمدت فضائية في البث. كتبت مرة سلسلة مقالات عما أسميته (ثقافة الجهل وثقافة التسامح)، بمعنى أن الذين يرسمون السودان هكذا ويتبعون رسمهم هم في الغالب لا يعرفون شيئا عن ذلك البلد الكبير، لا يعرفون ثقافته ولا أدبه ولا عمرانه ولا تراثه الذي هو تراث مشرق وغني. في المقابل يوجد التسامح الذي هو لغة متداولة في السودان منذ نشأ ولم يتغير إلى الآن وقد تغيرت أشياء عدة في السنوات الأخيرة، وقد ذكرت حادثة الولد (هاشم سخي) الذي أصابه عسكري من جنود الطوارئ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي في أحد الأيام حين عبر أمامه بدراجة نارية، وجاءوا به إلينا في المستشفى لنبتر رجله المصابة، ثم ليموت في اليوم الثالث لإصابته بالغرغرينا السامة وكان في شهر العسل، وحين ذهبت إلى عزائه الذي أقيم في أحد الأحياء الفقيرة، عثرت على الجندي الذي أصابه جالسا في وسط العزاء، وأيضا يوزع الماء والشاي للمعزين من دون أن يسأله أحد أو يهب إلى عنقه ليكسرها. إنها ثقافة غريبة يمكنك أن تعثر بداخلها على ما لا تتوقعه أبدا، وكأنك تتجول داخل رواية من روايات الواقعية السحرية التي نكتبها، ولا يعرف الكثيرون أنها حقيقة. أيضا يوجد عدد من مواطنينا ساهموا في ذلك الرسم الكاريكاتوري، فتجد قناة فضائية اسمها (زول) تحمل شعارا كاريكاتوريا ساخرا، وكاتبا يوقع بلقب الزول حين يكتب، وآخر يسخر من نفسه وتعمم سخريته على شعب كامل. أخيرا زار السودان مستعرب أوروبي قرأ آداب السودانيين وترجمها، وعاد منبهرا ومتشوقا للعودة مرة أخرى.. لقد قرأ السودان كاملا، ولم يجد ما كان يشاهده فضائيا هناك.