في مسيرته المليئة بالمفاجآت والقفزات النوعية حاز أوباما قبل يومين على جائزة نوبل للسلام هذه السنة، ليضيف جدلا جديدا حول شخصه ونجاحاته وأحلامه ومشاريعه، وربما حاز هذه الجائزة بناء على أحلامه ومشاريعه وأمانيه كأمنيته بخلو العالم من الأسلحة النووية ورغبته في حل كثير من مشاكل العالم بروية وحكمة لا بالقوة فحسب. لست هنا لأقرر إن كان أوباما يستحق هذه الجائزة أم أنها جاءت مبكرة كما يرى البعض، ولكن المتابع لهذه الجائزة العالمية يجد أنها تعطى أحيانا للبعض تشجيعا لهم للوقوف في وجه سلطات ديكتاتورية أو دعم مشاريعهم الخلاقة، مع وجود أصل استحقاقهم لها بطبيعة الحال. وقد قال أوباما في خطاب قبوله للجائزه إنه يقبلها كنداء للعمل لا كاعتراف بإنجازات شخصية، وتساءل ورد ثرونبيورن ياغلاند رئيس لجنة نوبل في مؤتمر صحفي في مركز نوبل للسلام قائلا: «هل يستطيع أحد أن يدلني على من أنجز أكثر منه هذه السنة!»، وأضاف: «من الصعب اختيار فائز بجائزة نوبل للسلام يكون أقرب من أوباما إلى وصية ألفريد نوبل». عودا على أوباما وخطاباته وأحلامه، وقراراته ومشاريعه، فحديث أوباما دائما مبهر، وخطاباته مصوغة بعناية كبيرة تضمن التأثير الأبلغ على المتلقين، لا أدري متى اكتسب أوباما هذه المهارة ولكنه يطبقها بطريقة مذهلة وشديدة الأثر، ويمكن لأي متابع لخطاباته أن يرصد هذه الميزة فيها. اتضحت هذه المهارة أكثر في خطابات أوباما للعالم، ولمناطق مختلفة منه، خطابه في القاهرة للعالم الإسلامي، وخطابه للباكستانيين، وخطابه في غانا للأفارقة وخطاباته في أوروبا وروسيا وغيرها، في كل هذه الخطابات كان أوباما يحرص على أن يبني طبيعة حميمة بينه وبين المخاطبين مع تعددهم وتباينهم، فهو في مصر يستشهد بالقرآن والحديث، وهو يقول للباكستانيين إنه يحسن طبخ الكيما «أكلة باكستانية شعبية»، وهو في أفريقيا يقف على القلعة التي كانت مصدر العبودية ويلقي خطابا مميزا حولها، وهو في روسيا مستعد للتنازل عن قضايا إشكالية كقضية الدرع الصاروخي في سبيل تحقيق ما يريد، ولكن السؤال هنا هو ماذا يريد أوباما؟ إن أراد أوباما أن يصنع فرقا في التاريخ فعليه الخروج على الأطر المعهودة التي جرى عليها أكثر الرؤساء الأمريكيين في العقود الأخيرة من تاريخ أمريكا والعالم، في تاريخ أمريكا فإنه يواجه أصعب التحديات الاقتصادية مع الأزمة العالمية، ومعركته الأكبر هي معركة الرعاية الصحية التي يتوقف مصير ترشحه لرئاسة ثانية عليها، وهي التي أعجزت جميع الرؤساء قبله، وفي تاريخ العالم فإنه أمام ملفات شديدة الصعوبة في العالم كله والعالم الإسلامي بوجه خاص. فيما يخصنا في المنطقة فإن أمام أوباما قرارات صعبة من باكستان وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين قضية العرب والمسلمين المركزية وأس الصراع المزمن في المنطقة وغيرها من البلدان والقضايا، وهو حسب قراءة خطاباته وأفكاره يسعى لحل شبه شامل للمنطقة، حل يقدم فيه تنازلات لهذا الطرف أو ذاك في سبيل تحقيق التصور الكامل والحل الشامل لجميع تلك المشكلات، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي يعي الجميع أنها أصل وأس المشاكل في المنطقة برمتها، وهي الشماعة التي يعلق عليها الجميع مشاكلهم الداخلية والخارجية، وهي أكثر التحديات امتحانا لأوباما، وبخاصة مع وجود اليمين المتطرف في رأس السلطة في إسرائيل، والانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على غزة. القضية الفلسطينية بالإضافة لما سبق هي لب الصراعات وهي قضية طال انتظار حلها وحين يسعى أوباما لحلها فإنه أمام تحد تاريخي حقيقي إن نجح فيه فسيكون الأجدر بجائزة نوبل من كل من سبقوه، وحتى ينجح في هذه القضية المعقدة بتشابكات الأديولوجيا والسياسة والتي تتقاطع فيها عوائق وعوالق التاريخ والجغرافيا، حتى يفعل هذا فإنه بحاجة لكل جهد من أي جهة في العالم وبخاصة من أطراف القضية في فلسطين وإسرائيل، وبالتأكيد من الدول العربية التي يقف على رأسها اليوم السعودية ومصر. في المفاوضات السياسية الجارية حول هذه القضية الكبرى فإن الوقوف عند قضية الاستيطان ووقفه أو استمراره أو إبطائه هو تفاوض في هوامش القضية لا في لبها، وهي مفاوضات يمكن تأجيلها والدخول مباشرة في القضايا الرئيسة كالدولة المستقلة والقدس واللاجئين ونحوها، أو على الأقل جعلها قضية مطروحة من ضمن أوراق على طاولة المفاوضات. إسرائيل ليس لديها ما تخسره وهي في ظل حكومة يمينية متشددة لا تسعى لحل سريع بل إنها تتباطأ فيه قدر ما تستطيع، وأطراف القضية جميعا يريدون أن ينالوا كل ما يبتغون دون أن يقدموا أي ضريبة أو أن يتزحزحوا عن مواقعهم، ولن تحل هذه القضية إلا بتنازلات كبيرة من جميع الأطراف كتلك التي حدثت في اتفاقية أوسلو والتي غضب عليها الكثيرون من الطرفين ولكنها على الرغم من ذلك وضعت فلسطين والفلسطينيين على خارطة العالم، واستفادوا الكثير، وها نحن نقف اليوم على استحقاق الحل النهائي الذي يحتاج لتنازلات مؤلمة ولكنها مهما كان ألمها ستكون أفضل من التيه الذي عاشت فيه هذه القضية على طول تاريخها، أقول هذا لإثبات أن منطق الحق يقف مع الفلسطينيين ولكن منطق الواقع يقف مع الإسرائيليين، والحل يكمن في نقطة ما بين المنطقين. على أوباما أن يعرف أن رئاسة أمريكا وتأثيرها في العالم ليست كلمات مرشح بل قرارات رئيس، ليست تمثيلا انتخابيا بل عمل واقعي له تأثيراته على البشر والأمم والمجتمعات، عليه إن أراد أن يكون رئيسا استثنائيا ألا يكتفي بالخطب بل أن يتبعها بالعمل، عليه أن يجتاز امتحان «المية تكذب الغطاس» كما قال وزير الخارجية المصري أبو الغيط في لقاء سابق مع قناة العربية. المصالحات الكبرى في التاريخ والسياسة كانت على الدوام نتيجة لخصام متطاول دفعت فيه كل الأطراف خسائر كبرى وتضحيات جسيمة وجربت أصناف المعارك والحروب واستنزفت فيها موارد واحتشدت فيها خطابات عدائية متوارثة، ولكن كل هذا كان يقود في النهاية إلى الرضا بحلول غير مرضية تماما ولكنها بكل الأحوال أفضل مما تم تجريبه من قبل من الوسائل الدموية. لا يمنع من المصالحات الكبرى شيء مثل ما يمنع منها الخطابات الغوغائية والحماسية التي تكون قد رسخت عبر سنوات طوال ويحتاج الانعتاق منها إلى قدرة استثنائية على استعادة الخطاب العقلاني والرضوخ لمنطق العقل ومنطق التاريخ بعيدا عن منطق الأيديولوجيا والتعصب. أماني أوباما وأحلامه هي أمان لكثيرين وأحلام لهم، ولكن الأحلام لا تنفع في تغيير موازنات الواقع ولا تحل مشكلاته، فالأحلام مساحتها الخيال، والمشكلات مساحتها الواقع وحلولها يجب أن تكون قابلة للتطبيق على الأرض، وهنا يكمن التحدي أمام أوباما أن يختار مكانه بين إبهار الخطابات ومرارة القرارات. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة