قد يبدو مغريا لصحافي مثلي أن يصف مشهد محاولة الاعتداء الآثمة على مساعد وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بأنها تحمل صورة رمزية معبرة فالقاعدة ويمثلها في المشهد المجرم الضال تنتحر أمام الرجل الذي عهد إليه ملف القضاء عليها. ولكن كل معطيات الواقع تقول بأن الأمر ليس بهذا التبسيط، وان القاعدة لاتزال في الساحة وعلى أرض المعركة، وأنها لم تنتحر، كما قد يظن البعض، وهي وإن تلقت ضربات موجعة ومؤلمة ومؤثرة، فلازالت تحتفظ ببقية من قواها، ولا تزال قادرة على ضخ دماء جديدة في عروقها، ولا تزال قادرة على تجنيد عناصر جديدة ترمم بها بعض ما فقدته من عناصرها الذين إما سقطوا في مواجهات مع رجال الأمن الأبطال، أو انتهى بهم المطاف في السجون يقضون فيها أحكاما شرعية جزاء ما اقترفته أيديهم بحق الوطن والمواطنين. الخداع سلاح القاعدة الخطير ولاشك أن قراءات كثيرة يمكن استخلاصها من المحاولة الأخيرة والفاشلة للقاعدة التي استهدفت الرجل الذي بيده ملف محاربة هذا التنظيم الفاسد، بوصفه مساعدا لرجل الأمن الأول في بلادنا صاحب السمو الملكي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء الأمير نايف بن عبد العزيز. فهناك من يرى أن المحاولة تكشف عجز القاعدة عن تنفيذ عمليات كبيرة مثل تلك التي نفذتها في السابق واستهدفت فيها منشآت حيوية في المملكة، فلجأت إلى عملية من هذا النوع، فهذه العملية رغم خطورتها، ورغم الخداع الذي اتسمت به، إلا أنها عملية بسيطة من حيث الشكل والأدوات، اعتمدت بالدرجة الأولى على عنصر المعاملة الحسنة التي كانت تقابل به عناصر الفئة الضالة التائبة من قبل ولاة الأمر ورجال الأمن عندما يتقدم أحدهم لتسليم نفسه، والمتتبع لكثير من عمليات القاعدة يلاحظ أنها تجيد استغلال مثل هذه (الثغرات) لتنفذ عمليات كبيرة وضخمة بأدوات ووسائل سهلة تكاد لا تصدق، كما فعلت في اعتداءات 11 سبتمبر 2001م في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فالعملية رغم ضخامتها وقوة تأثيرها وما خلفته من دمار وتداعيات طالت العالم بأسره، إلا إنها نفذت بالاعتماد على عنصرين هما الخداع أولا والثغرات الموجودة لدى الجهة المستهدفة ثانيا. وهذا ينطبق أيضا على عملية القاعدة في اغتيال أحمد شاه مسعود (أسد بانشير) عندما أرسلت إرهابيين متنكرين بهيئة فريق تلفزيوني أجنبي لإجراء مقابلة مع مسعود في معقله شمال أفغانستان، وقبل أن يجيب مسعود على السؤال الأول كان الجميع قد تحولوا إلى أشلاء. والأسلوب نفسه اعتمدته القاعدة في كثير من عملياتها. تكتيكات جديدة ووفق هذه القراءة، يعتقد كثيرون أن القاعدة تفتقد إلى قيادة قوية ومتمرسة ومحترفة في الوقت الحاضر بعد أن فقدت قياداتها السابقة التي قضي عليها في مواجهات شرسة وقوية مع رجال الأمن البواسل، كما تفتقد في الوقت ذاته إلى عدد كاف من العناصر المدربة والتي جربت القتال في ساحات مايسمى ب(الجهاد) خارج المملكة، ويعزز هذا الرأي فشل الإرهابي المجرم الذي حاول الاعتداء على الأمير محمد بن نايف، فهو وإن نجح في الدخول إلى منزله، إلا انه تعثر وسقط مما أفشل مهمته ولله الحمد والفضل والمنة، وهذا مؤشر إلى أنه من العناصر غير المقاتلة وغير المدربة تدريبا جيدا، وأقصد هنا العناصر التي جربت القتال في أفغانستان، البوسنة، الصومال، أو الشيشان، فمعظم هؤلاء المقاتلين المجربين إما قتلوا أو في السجون، أو خارج المملكة. ووفق هذه الرؤية من المرجح أن تعتمد القاعدة في المرحلة المقبلة على عمليات نوعية لا تتطلب عددا كبيرا من العناصر كما كانت تفعل في السابق، وهذا ما يؤكده بيان وزارة الداخلية الأخير الذي صدر عقب القبض على مجموعة ال(44) حيث أشار البيان إلى تخطيط القاعدة لعمليات اغتيال تستهدف شخصيات كبيرة في الوطن، كما أشار إلى ضبط أجهزة وتقنيات تساعد على تنفيذ مثل هذا النوع من العمليات حيث تعوض التقنية نقص العناصر الانتحارية عبر دوائر التفجير عن بعد. استهداف الشخصيات القيادية ويمكن وضع هذه العملية الفاشلة في سياق نقلة نوعية في مخطط القاعدة الجهنمي، الذي بدأ باستهداف المقيمين الأجانب، ثم انتقل في مرحلة ثانية إلى استهداف المنشآت الحيوية، وهاهو يدخل المرحلة الثالثة باستهداف الشخصيات القيادية والمرموقة في المملكة من مسؤولين، مفكرين، وإعلاميين، والمتابع لخطاب القاعدة يلحظ أنها لوّحت بهذه الخطوة غير مرة، وسبق أن أصدرت قوائم اغتيالات، كما أن اعترافات المقبوض عليهم أكدت أن لدى القاعدة خطة اغتيالات واسعة، وأنها آثرت في مراحل سابقة تأجيل تنفيذها لحساباتها الخاصة، وقد تكون هذه المحاولة الفاشلة إعلانا للبدء في تنفيذ هذه المرحلة، الأمر الذي يستدعي الأجهزة الأمنية اتخاذ الاحتياطات اللازمة، ووضع هذه الفرضية في الحسبان. الإرهابي علق الجرس وقد يدفع فشل القاعدة في النيل من الأمير محمد بن نايف إلى تنفيذ عملية أخرى سريعة ترفع بها معنويات عناصرها عقب الإحباط الكبير الذي خلفته هذه العملية في صفوفها داخل وخارج المملكة، وليكن الحذر والاستنفار واليقظة هو عنوان المرحلة المقبلة لدى رجال أمننا الأبطال، وقد قيل (من مأمنه يؤتى الحذر)، فالإرهابي المجرم الذي دخل إلى منزل مساعد وزير الداخلية (علق الجرس) وعلينا أن نكون في قمة الحذر. ضبط البوصلة باتجاه الجذور ولاشك أن التطورات الأخيرة في ملف الفئة الضالة تدعونا إلى استخلاص العبر، وأول هذه العبر هي أن جذور الإرهاب لا تزال موجودة، وأن هنالك من يمدها بأسباب الحياة والاستمرارية والبقاء، وأن القاعدة وإن تكسرت عظامها جراء الضربات الموفقة لرجال الأمن السعوديين إلا أنها لم تخرج نهائيا من المعركة، ولم ترفع راية الاستسلام بعد، ولا تزال قادرة على مداواة جراحها، وتجميع صفوفها، وترتيب أوراقها، ولذا يجب أن تكون هذه العملية الآثمة الفاشلة التي استهدفت أحد أهم قياداتنا الأمنية ناقوس خطر يدق من جديد لينبهنا إلى ما يجب أن نتخذه دون تأخير أو تباطؤ أو استسهال، والمطلوب مشروع جديد وشامل يستهدف بالدرجة الأولى جذور الإرهاب لاقتلاعها نهائيا من هذه البلاد المباركة، وتطهير المملكة من هذا الداء الخبيث الذي يتهدد البلاد والعباد. ونحتاج من أجل تحقيق هذا الهدف السامي والنبيل والاستراتيجي أن نكون أكثر جرأة وصراحة وشجاعة مع النفس، فالرحم الذي ينتج الإرهابيين لايزال ولودا، والحاضنات التي تتولى رعاية هؤلاء المجرمين وشحنهم وتعبئتهم بالأفكار الضالة والمضلة لا تزال نشطة تحت عناوين مخادعة تخفي حقيقتها بوسائل لم تعد تنطلي على أحد، وعلينا أن نوجه بوصلة الحرب على الإرهاب بالاتجاه الصحيح، وأن نذهب مباشرة إلى هذه العناوين المخادعة التي يخرج الإرهابيون من رحمها، ويتم شحنهم تحت عباءتها، وبدون ذلك نصبح كالمزارع الذي يقص أغصان الحشائش الطفيلية المزعجة في حقله ويترك الجذور لتنتج له في اليوم التالي أغصانا أخرى.