يجمع الكثيرون على أن إحياء الأمير الشاعر خالد الفيصل لتراث سوق عكاظ قبل عامين لم يكن تشييد قصور على رمال الشواطئ، كما لم تكن آلية طرح المشروع رغبة في العودة لعصر جاهلي بما عرف فيه من معنى ومحتوى. ولم يكن ذلك النوع من الإحياء نفض غبار عن إرث تجاوزته الألفية الثالثة بمتغيراتها، وعنفوانها، ورتمها المتسارع، فأصبح نسج الشعر فيها مثل غزل العنكبوت لا يقوى على مجابهة ما حوله، فيما كان في السابق صخرة تقف في وجه الإعصار. أحيانا يضطر الكثيرون، خاصة الشعراء والأدباء والمثقفين العودة إلى الجذور، لا رغبة في الالتصاق بالأرض، وعدم الطيران في السماء، لكن تكريسا في ترسيخ قواعد الطيران على مبدأ التفاضل والتكامل بمفهومها اللغوي لا الهندسي، فلا طيران لمن يولد بلا أجنحة، ولا سير لمن لا يجد أرضا. ولا يختلف اثنان على أن واقع سوق عكاظ التاريخي الممتد إلى 19 قرنا حسبما تشير بعض المراجع كان أرضا صلبة يمكن أن ينطلق منها الجميع سواء في داخل حدود أرض شبه الجزيرة العربية، أو في الإطار الأوسع لما وراء الفرات، ولما بعد النيل وإلى أرض الفتوحات. فلم يكن ذلك السهل المنبسط بين مكةوالطائف الذي يقام ما بين هلال ذي القعدة ومنتصف الشهر، وقد يمتد حتى الثاني من ذي الحجة من كل عام، مجرد تجمع يعكس أصالة في الخطابة وتبار في الحديث، و«معاكظة» في المفاخرة تنتهي برحيل العام لتبدأ أعوام أخرى في تسجيل الحدث باقتراب الموعد الجديد من العام الآخر، بل كانت الأحداث متراكمة إلى درجة جعلتها مصدرا للأمثال، وإلا ما روى التاريخيون قصة راية الحزن التي رفعتها قريش في السوق خجلا من هزيمة بدر في العام الثاني الهجري. من هنا كان ينبغي على التاريخ إعادة نفسه لكن بثوب عصري، يقترب من موقع الحدث على مساحة تصل إلى عشرة كيلو مترات، وعلى بعد مماثل من مطار الحوية في الطائف، وأصبح أفول نجم السوق بعد قرنين من السطوع عام 149 هجرية، ميلادا جديدا لسوق تتبارى فيه الألسن على نحو الأعراف، وتتشخص فيه الأجساد بزي القدم، وتتأرجح فيه الخواطر باستدعاءات الأمس. فلا عاد السوق القديم حاضرا اليوم، وما غابت (سوق عكاظ) عن نبض الحاضر. وإذا كان التاريخ يحفظ للسوق نمطية التعاطي ومداورة الأيام، فإن خالد الفيصل استطاع في غضون ثلاثة أعوام أن ينعش بالتاريخ نمطية من نوع خاص، فلا عاد للجهل مرتعا بين أحشاء السوق، ولا عادت «المعاكظة» فخرا بالأنساب وإنما فخرا بالأنماط المتداولة. ولأن الزمان ليس هو الزمان، فإن استعادة إرث القرون الأولى يمثل حيزا محدودا من النجاح، ومساحة واسعة من المخاطرة، كأشبه بالذي يسير على جمر، فإن أسرع انكوى عرقه، وإن أبطأ تفحمت أوصاله. من هنا تطلب إحياء الذكرى معملا خاصا ونوعية مختارة مما يشترى ولا يباع، ومن هنا كان التقييم بوصلة يسهل وضعها، ويصعب طرحها لمن أراد العدالة في الطرح والاسترجاع، فلا عودة امرئ القيس بداية للنهاية، ولا جوائز التشجيع نهاية البداية. فلا خلاف على أن الكل ينشد الكمال.. ولا يبلغه أحد، والجميع يسعى للمراد.. ولا يوبخه أحد، فإن كان التنقيب في باطن الأرض عن أحجار يسهل استخراجها، وحملها، وعرضها، يعد اكتشافا فمن باب أولى أن التنقيب في أمهات الكتب والبحث في مغاور وسراديب الكلمات وأبجديات الحروف وتراتيب الثقافات واسترجاعها يعد انتصارا يستحق أن نفاخر به أولا قبل أن نفند ونصنف العهود، وهل كانت تلك من عصر بارز أم غامض؟ وهل أصحابها يستحقون التخليد أم المزيد من حقن الرمال؟ أحسب أننا أمام سواعد وفكر جديدين، يخرجان عن مفهوم تحريم تداول أنماط الجاهلية إلى التعاطي مع واقع لماذا لا نشرب الخمر؟ فلا عيب في سؤال الجاهل، ولا عيب في استرجاع السؤال، لكن العيب في إبقاء مئات الأسئلة في جوف البحار أسفل كتل الرمال!! ولنا عودة.. (مسرحية «امرؤ القيس» هدف ناجح.. ولكن!).