في تاريخ بدء التعليم الأهلي وتنظيم القضاء بدولة الكويت الذي يعود إلى منتصف عشرينات القرن الماضي ومطلع ثلاثيناته على التوالي، هناك العديد من الشخصيات التي حفرت اسمها بمداد من ذهب، جهداً ومثابرة وتحصيلاً للعلوم والمعارف وخدمة للمجتمع ونكراناً للذات وتعاوناً مع الناس. من هذه الشخصيات ذات الذكر الحميد والمتكرر الشيخ أحمد عطية الأثري، الذي تميز عن سواه بالانفتاح والتيسير والتسامح والاعتدال في حياته وأحكامه وفتاواه، ناهيك عن أنه جمع في شخصه العديد من المواهب التي سنتطرق لها لاحقاً، فكان شخصية حادة الذكاء ومعتدة بنفسها وعلمها، وقاضياً لم يخشَ يوماً في قول الحق لومة لائم، ومربياً فاضلاً ذا مكانة بين وجهاء الكويت وحكامها يقدمونه في المجالس ويوقرونه ويلتمسون عنده الرأي والمشورة. اسمه الكامل هو «أحمد بن علي بن عبدالحميد التميمي»، أما اسم عطية فقد اقترن باسمه لأن والده توفي له من البنين مرتين قبل إكمالهما سن الثالثة بسبب الأمراض، فلما رزقه الله بابن جديد وعاش إلى ما بعد سن الثالثة قرر أن يطلق عليه اسم «أحمد عطية» المركب، كناية عن أنه هبة وعطية من رب العالمين. وأما لقب «الأثري»، فقد أضافه هو نفسه إلى اسمه، واشتهر به بعد ذلك حتى صار لقباً لعائلته، وذلك طبقا لماً كتبه عنه الأستاذ باسم اللوغاني في صحيفة «الجريدة» الكويتية (23/8/2013). أما سبب اختيار الرجل للقب «الأثري» بدلاً من «التميمي» فهو أن الكثيرين من جماعته من بني تميم (من غير أقاربه ومعارفه) كانوا يفدون إلى الكويت من نجد، ويلجأون إليه للاستضافة والإقامة كونه تميمياً فحسب، فكان يضطر إلى استقبالهم واستضافتهم أياماً بحكم العادات والتقاليد القبلية والاجتماعية السائدة قديماً، وهو ما كان يصرفه عن أعماله ومطالعاته وواجباته القضائية والتعليمية. لذا وجد الحل في تغيير لقبه إلى الأثري أي المتبع للأثر الثابت عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، طبقاً لما ذكره الدكتور راشد الفرحان في إحدى حلقات برنامج «أهل الهدى» من قناة المعالي الفضائية. وُلد الشيخ أحمد عطية الأثري في عام 1903 (وقيل في 1904) في فريج «المطبة» بالحي الشرقي من مدينة الكويت، ابناً لأب هو علي الأثري وأم من عائلة الخرقاوي، وحفيداً لجده عبدالحميد المنحدر من عشيرة المصالحة من تميم الذي كان قد نزح من حوطة بني تميم في نجد إلى «أبو الخصيب» في البصرة، ثم قدم إلى الكويت في منتصف القرن الثامن عشر واستوطنها وأنجب على أرضها ولده علي الذي عمل معه في مجال النقل التجاري، حيث امتلك لهذا الغرض مركباً أطلق عليه اسم «مريم خيل»، علماً بأن الشيخ أحمد عطية حينما كبر واشتد عوده انضم إلى والده في هذه المهنة، فكانا ينقلان الركاب وبعض السلع كالتمور والأرز على ظهر المراكب ما بين البصرةوالكويت وما بين الأخيرة وموانئ الخليج بساحليه العربي والفارسي، وما بين موانئ الخليج وموانئ الهند وسريلانكا وشرق أفريقيا وعدن. كعادة الأسر الكويتية والخليجية قديماً، ألحقه والده بأحد الكتاتيب التقليدية المنتشرة في الكويت آنذاك، حيث تعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وحفظ قصار السور القرآنية. في المرحلة التالية من حياته العلمية راح يتلقى العلم على يد بعض من علماء الكويت المعروفين وعدد من العلماء الوافدين إلى الكويت من دول الجوار، بل كان يرحل إلى البصرةوالأحساء والبحرين وقطر طلباً للمزيد من العلم. كان من بين الذين تتلمذ عليهم: الشيخ أحمد عبدالجليل الطبطبائي الذي كان يعطي دروساً في مسجد الحداد القريب من منزل الأثري، والشيخ محمد علي اليماني الذي كان يسكن حي المرقاب ويؤم المصلين بمسجد هلال المطيري ويعطي دروساً في علوم النحو والصرف والمنطق وقواعد اللغة العربية وهي علوم جذبت الأثري فبرع وتميز فيها، خصوصاً أنه كان حاد الذكاء وسريع البديهة وذا قدرة استثنائية على الحفظ، الأمر الذي لفت انتباه الشيخ اليماني فأولاه رعاية خاصة، والشيخ أحمد بن محمد بن أحمد الفارسي، واعظ الكويت الأول الشافعي المذهب الذي تلقى علمه في بلدة كوهج الفارسية وفي مسقط ومصر، والعلامة الشيخ عبدالله الخلف الدحيان الحربي الحنبلي صاحب الأيادي البيضاء على الحياة العلمية والفكرية في الكويت، وأحد أوائل وأشهر قضاة الكويت المعروفين بالعدل والزهد والعفة، والشيخ أحمد بن خميس الجبران الشهير باسم أحمد الخميس الخلف نسبة إلى خاله الشيخ عبدالله الخلف الدحيان. ومن شيوخ العلم الآخرين الذين تتلمذ الأثري عليهم في تلك الفترة: الشيخ عبدالعزيز بن أحمد آل مبارك الأحسائي المالكي، الذي كان محباً للكويت ويتردد عليها كي يهب لطلبتها علمه، لاسيما أنه كان متبحراً في مذهب الإمام مالك، والشيخ عبدالعزيز بن صالح العلجي الأحسائي المالكي وهو شيخ من شيوخ الأحساء المعروفين ومن الضالعين في فقه العبادات حسب المذهب المالكي وفي النحو والصرف (له في الصرف نظم سماه «الغواني في نظم عزية الزنجاني»)، حيث كان الشيخ العلجي دائم التردد على الكويت ويقيم في بيت الرومي ضيفاً، ويهب علمه الغزير لمن يريد. أما المرحلة الثالثة من حياته العلمية فقد أمضاها في القراءة والاطلاع على كتب الفقه والشريعة والأدب والشعر التي كان يجتهد ويحرص على اقتنائها من مصادر مختلفة، على الرغم من قلتها في بلد مثل الكويت آنذاك. إذ كان مؤمناً بأن العلم لا يأتي إلا بالشغف والصبر والمثابرة، بل كان يردد أن القراءة والاطلاع الواسع هما دعامتان من دعائم تكوينه العلمي. وبلغ من حبه للقراءة أنه كان يستغل أيام إجازاته السنوية في البقاء داخل منزله منكباً على قراءة الكتب وتفحصها بوعي ودقة أو ناسخاً لها، وبلغ من شغفه بالكتب أنه كان ذا ذائقة رفيعة لجهة ترتيبها وتصنيفها واختيارها وشرائها بأي ثمن، ناهيك عن أنه كان يقرأ في مختلف المؤلفات فاصبح ملماً بعلوم الحساب والجبر والفلك واللوغاريتمات والتاريخ والجغرافيا. ومن المؤلفات التي تولع بها آنذاك، ولاحقاً حينما بدأ حياته الوظيفية، كتب الأدب والشعر التي جعلته يحفظ أمهات القصائد العربية، بل حولته أيضاً إلى مقرظ لشعر المناسبات والشعر التعليمي، ومن ذلك تقريظه لكتاب «المطالعة العامة في العظات الأدبية والأحكام الفقهية» الذي ألفه المرحوم «ملا عبدالمحسن عبدالله البحر» سنة 1952، إذ قال فيه: أدرٌ نظمته يد اللبيب بسلك أم عبير فاق عبقا أم حسناء من مكنون خدر بدت ترنو على الأكفاء شرقا هي المأمول من مكنون علم لنفع الناشئين عراه وتقى حروف هجا نسقن على طروس لطرق مبادئ التعليم نسقا إلى أن قال: أبناء الكويت ويا رجال الغد المأمول والآمال تبقى فجدوا واحفظوا الآداب حفظاً وفهماً للمعالي مستدقا فإنكم رجال بعد حين نؤمل فيكم الأوطان ترقى وحبوا الحاكم المبرور واحموا حماه وافتدوه النفس رقا لكن المؤسف أن شعر الأثري ضاع كله ولم يصلنا منه إلا أقل القليل، وكذا الحال مع الكتب الفقهية التي ألفها التي لم يبقَ منها سوى صفحات متناثرة بسبب عوادي الزمن. بدأ الأثري حياته العملية في عشرينات القرن الماضي كمعلم للبنين لفترة من الزمن بمدرسة حمادة التي أسستها أسرة حمادة وكان يديرها الشيخ عبدالعزيز قاسم حمادة. بعد ذلك فتح بنفسه مدرسته الخاصة داخل جزء من منزله في فريج العليوة. وفي هذه المدرسة التي كانت تعمل على فترتين، صباحية ومسائية، أمضى الرجل ستة أعوام، يربي ويعلم بأجر رمزي زهيد ويعفي أبناء الفقراء وغير المقتدرين منه. ومن بين الذين درسوا وتتلمذوا على يده آنذاك: الشيخ محمد بن جراح الصباح، والشيخ أحمد بن غنام الرشيد، والملا سعود بن راشد الصقر، والدكتور صالح العجيري، والأستاذ أحمد البشر الرومي، طبقاً لما ورد في مجلة «الوعي الإسلامي» الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت في عددها رقم 532. وفي عام 1931 تم تعيينه، زمن حاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح، قاضياً مساعداً للشيخ عبدالعزيز قاسم حمادة في دائرة المحاكم، وذلك على إثر وفاة عالم وقاضي الكويت التقي الورع الشيخ عبدالله الخلف الدحيان. يلقي الخطب ارتجالاً وبالتزامن ولمدة طويلة ناهزت 28 عاماً، تولى وظيفة الإمامة في مسجد هلال المطيري بالمرقاب خلفاً لمعلمه الشيخ محمد اليماني بسبب مرضه. إلى جانب الإمامة تولى منصب الخطابة والوعظ أيضاً، حيث تميز عن كل مجايليه بإلقاء الخطب والمواعظ ارتجالاً على عكس الآخرين الذين كانوا يقرأون من الورق. علاوة على ذلك كان يلقي الخطب والمواعظ بأسلوب جذاب وغير متكلف في المجالس الرمضانية، شارحاً الأحاديث النبوية شرحاً مفصلاً وبليغاً ومطولاً، مع حرص شديد على عدم إيراد حديث نبوي غير صحيح أو مختلف عليه أو مرهب للمستمعين، وهو ما ساهم في زيادة مريديه وطلبته. ويقول تلميذه «محمد ملا حسين التركيت»، إنه كان ضمن من درسوا علم النحو على يد الأثري بعد صلاة العشاء في مسجد هلال على ضوء السراج الخافت. وهذا يعني أن صاحبنا لم يكتفِ في مسجده بالإمامة والخطابة والوعظ وإنما كان يدرس أيضاً طلبة العلم آنذاك. ومما يذكر عنه، أنه كانت له آراء فقهية ميسرة وغير متشددة ومتميزة بالانفتاح والاعتدال، بل كان الشيخ والقاضي الوحيد في زمنه ذا الوجه الحليق. ومن آرائه الفقهية أنه أفتى بجواز قيادة المرأة للسيارة في فترة الخمسينات حينما كثر تساؤل الناس حول جواز ذلك من عدمه. كما أنه أفتى سنة 1954 بجواز تأسيس «شركة السينما الكويتية» عندما سأله أمير الكويت الأسبق الشيخ صباح السالم الصباح، يوم أن كان سموه رئيساً لدائرة الشرطة. حيث طلب الأثري مهلة يوم واحد للإجابة، ولم يمضِ اليوم إلا وصاحبنا يعود إلى الشيخ صباح ومعه شهادة تثبت مساهمته شخصياً في شركة السينما، كتأكيد على جواز تأسيسها والمساهمة بها. إلى ما سبق أفتى الأثري قبل وفاته بعام بجواز استخدام أرض المقابر لأمور أخرى بعد مرور فترة زمنية. وبناء على فتواه هذه، قامت بلدية الكويت في عام 1962 بتحويل «مقبرة الدهلة» إلى حديقة عامة، وهي الحديقة الواقعة اليوم على شارع صلاح الدين. فنان مبدع في الرسم ومن الدلائل الأخرى على تسامح واعتدال الشيخ الأثري، أنه لم يقل بتحريم التصوير أوالرسم، وآية ذلك أنه كان نفسه، فناناً مبدعاً في الرسم وصاحب ريشة جميلة وخطاطاً ماهراً وملماً بأنواع الخط العربي ومدارسه. والدليل الآخر على تسامحه واعتداله، أنه كان يقوم في 25 ديسمبر من كل عام، بمعية القاضي عبدالعزيز قاسم حمادة والشيخ عبدالله النوري، بزيارة الكويتيين المسيحيين لتهنئتهم بأعياد ميلاد السيد المسيح. بعد نحو ستة أعوام من عمله مساعداً للقاضي الشيخ عبدالعزيز قاسم حمادة في دائرة المحاكم، وتحديداً في عام 1937، نقله الشيخ عبدالله الجابر الصباح إلى المحكمة الشرعية الكبرى للعمل قاضياً، ومنها انتقل في العام 1960 إلى محكمة الاستئناف العليا، كمستشار، فكان بذلك أول مستشار قضائي في تاريخ الكويت الحديث، لكن الرجل لم يبقَ طويلاً في منصبه هذا، إذ رحل إلى جوار ربه في 22 يونيو 1961، تاركاً خلفه سيرة عطرة وأعمالاً جليلة وذكرى لا تمّحي. وتقديراً لفضله كرمته الحكومة بعد رحيله بإطلاق اسمه على مدرسة بمنطقة الفردوس، كما بنت جامعاً باسمه في منطقة النهضة. أنجب الأثري ابنتين انتقلتا إلى رحمة الله، كما أنجب من الأولاد كلاً من عبدالحميد وصالح (والد الدكتور هيثم الأثري أستاذ القانون المدني بجامعة الكويت ووكيل وزارة التربية سابقاً) ومحمد وعبدالعزيز وعلي وإبراهيم، والأخير عمل في المحاماة وأنجب كمال (كابتن طيار في الخطوط الجوية الكويتية) وندى (محامية).