يكاد يجمع علماء السياسة الأمريكيون وغيرهم، على أن فهم ما يجري من أحداث، وتطورات سياسية دولية في أي منطقة نامية، أو أقل نمواً بالعالم، فهماً سليماً، يتطلب أولاً فهم أربع نظريات ومفاهيم سياسية أساسية؛ هي: النظام العالمي السائد، سياسة الأقطاب المهيمنة الخارجية تجاه المنطقة المعنية، أنواع الحكومات بالمنطقة المعنية، نظرية الاستعمار الجديد. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، يضيفون: الحركة الصهيونية، وضرورة فهم أهدافها ووسائلها، نظراً لتأثيرها البالغ على مجريات وتطورات الأمور السياسية بالمنطقة العربية. ونتطرق هنا ل«الاستعمار»؛ الذي يعني: إقدام دولة أقوى على حكم، واستغلال منطقة أو «دولة»، أضعف (نسبيًّا) سواء عبر الاحتلال العسكري المباشر، أو الاحتلال السياسي (الاستعمار غير المباشر/ الجديد) وفرض النفوذ، كظاهرة ملاحظة وملموسة من ظواهر العلاقات الدولية المعاصرة. وسبق أن تطرقنا لهذا الموضوع، ولكن مقال اليوم، والذي بعده، يتناول موضوع التوجه الاستعماري للدول العظمى والكبرى، الذي تعاني منه منطقتنا العربية، مُرّ الأمرّين، ويستوجب أن نذكّر بالنقاط التي تسهل فهم ظاهرة الاستعمار. تعرف «الدولة» -أي دولة- بأنها: مجموعة كبيرة من السكان، يقيمون -بصفة دائمة- على إقليم معين من الأرض، وتنظم أمورهم العامة حكومة ذات سيادة. وأي دولة تعني وجود كيان ذي قوة. وتظل «قوة» الدولة -أي دولة- «الخشنة»، أو الأساسية (Hard Power) متركزة أساساً في «العناصر» الستة المعروفة: نوعية وكم السكان، الموقع الجغرافي والواقع الطوبوغرافي، الموارد الطبيعية، قدرات السكان التقنية والصناعية، الإمكانات العسكرية... إضافة إلى أهم هذه العناصر، وهو: نوعية نظام حكمها وإدارتها (النظام السياسي) ومدى استقراره وجودته. وعند محاولة «قياس» مدى قوة أي دولة، على الساحة الدولية (ونسبة لأقرانها) تؤخذ هذه العناصر الستة في الحسبان الأول، أساساً وأصلاً.. باعتبارها تكوِّن (مجتمعة) ما يسمى ب«القوة الخشنة» للدولة، أو قوتها المادية. بالإضافة إلى «القوة الخشنة»، هناك «قوى» أخرى، هي: «القوة الناعمة» (Soft Power): فلأي دولة قوة معنوية وروحية... تتجسد في: ما تطرحه وتقدمه من قيم وعقائد ومبادئ وأساليب إنسانية حضارية، وثقافة وأدب وعلم وفن، ومساعدات اقتصادية وإنسانية واجتماعية... تلقى -من قبل الآخرين- الرضا والاستحسان والتقدير. إضافة الى مدى التزامها بحقوق الإنسان، وبما يسمى ب«المبادئ الخمسة المبجلة إنسانياً وعالمياً»، التي تعتبر، في ذات الوقت، حقوقاً أساسية للإنسان، وهي: الحرية والعدالة والمساواة، والديمقراطية (الشورى)، والتكافل الاجتماعي. ويمكن أن نضيف الى القوتين الصلبة والناعمة: التأييد الدولي: المستمد من صداقات وتحالفات دولية معينة، أو يمكن تعيينها، معلنة أو سرية. فقد توجد في بعض الحالات (مثلاً) دولة تصنف «صغيرة» على سلم القوة الدولية، ولكنها تحوز، في تلك الحالات، قوة ونفوذ الدولة «الكبيرة». وذلك بفضل قوتها الذاتية، وبفضل مساندة ودعم دولي من قوى دولية كبرى. إن أهم ما يحدد وضع (ومكانة) أي دولة -في أي وقت- على الساحة الدولية، هو: مجموع «القوة الصلبة» لها، والقوة الناعمة، وما قد يليها من قوى. ولا تكتمل قوة أي دولة، ويستتب وضعها على الساحة الدولية إلا بتوفر قدر (معقول) من «القوة»، بأنواعها وعناصرها المختلفة، وبشقيها المادي (الخشن) والمعنوي (الناعم). وبناءً على مدى قوتها (في العناصر الستة، المشار إليها، إضافة إلى ما لديها من قوة ناعمة) تصنف الدول على «سلم القوة الدولية» تنازلياً (حسب الأهمية) إلى سبع فئات، هي كالتالي: 1- الدولة العظمى (القطب/ Superpower). 2- الدولة الكبرى. 3- الدولة الكبيرة. 4- الدولة المتوسطة. 5- الدولة الصغيرة. 6- الدولة الصغرى. 7- الدويلة. وبحيث يمكن تحديد «مكانة» كل دولة في العالم، في تاريخ محدد، على هذا الأساس (بعد «تحديد» قوة الدولة العظمى المعاصرة). ونكرر القول بأن «نفوذ» أي دولة ومدى قدرتها على تحقيق أهداف سياساتها، يعتمد على: مدى قوتها، وموقعها على «سلم القوة الدولية». فكلما علا هذا الموقع كانت القدرة أكبر، والعكس صحيح. ودائماً ما يكون للدولة العظمى النفوذ الأقوى، والتأثير الأوسع في مجريات العلاقات الدولية في وقتها. ويكون للدولة الكبرى قدرة أكبر من قدرة الدولة الكبيرة، وأقل من قدرة الدولة العظمى، وهكذا. وكل هذا يؤكد أن الدول «تتفاوت» في مدى قوتها. وهذا التفاوت تترتب عليه نتائج مهمة، ويختلف من وقت لآخر، ومن حالة لأخرى، سواء فيما بين دول العالم، أو بالنسبة للدولة الواحدة المعنية. وإن سلمنا بأن العلاقات الدولية هي «صراع وسعي الدول من أجل القوة»، يصبح هذا التفاوت في قوة الدول، وما يترتب عليه، في ساحة العلاقات الدولية، أمراً طبيعياً، ومتوقعاً، ولكنه ذو تبعات خطيرة. ومن أخطر هذه التبعات، هو قيام ظاهرة الاستعمار، قديمه، وجديده. فغالباً ما تمارس الدول القوية التسلط على الدول الأضعف، بهدف استغلالها، والتحكم في سلوكها السياسي، وغيره. إذ تظهر دول استعمارية، لها أطماع خارج حدودها، تستغل قوتها، والضعف النسبي للآخرين، وتعمل على تحقيق ما تسميه ب«المصالح». وكثيراً ما تكون هذه المصالح عبارة عن: استغلال لموارد بلدان أخرى، ومصادرة لإرادتها، وتسيير الأمور فيها بما يخدم مطامع المهيمنين، حتى إن أضر ذلك بالمصلحة العامة للبلدان الضحية. وإذا كانت «غابية» العلاقات الدولية، ومنطقها الوحشي، تتيح استغلال القوي للضعيف، فإن القوانين والأعراف الدينية والإنسانية، بل والدولية الحديثة، تحرِّم مثل هذا التصرف، وتقف ضد استغلال واستعباد الآخرين. ورغم ذلك، فإن الدول القوية المتنفذة -ذات الأطماع الخارجية- تمارس هذا التسلط (الذي غالباً ما يفرزه الواقع الدولي باعتباره ناجماً عن طبيعة هذا الواقع)... وتحاول تغليف هذه الممارسة بالكثير من الحجب والتبريرات.. ولهذا الحديث صلة.