حينما توفي أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت عام 1650م، لم يكن الطيران سوى مجرد أحلام تداعب خيالات الشاطحين من البشر، مع ذلك فإن صاحب نظرية الشك أثّر بطريقة غير مباشرة في إجراءات السلامة التي باتت أهم مرتكزت صناعة الطيران بكافة تفاصيلها. الشك المنهجي يختلف عن الشك المطلق، فهو يعني عدم تقبّل أو التسليم إلا بما تم فحصه وتمحيصه، لذلك قال إدوارد مورفي «إذا كان هناك احتمال لحدوث خطأ ما فسوف يحدث»!. ومورفي بالمناسبة كان مهندساً في قاعدة إدواردز الجوية عام 1949م، وقد تبنّت وكالة ناسا للفضاء هذا القانون لاحقاً ثم قام كثير من الناس بعد ذلك بإضافة قوانين أخرى في ذات السياق وإن جاء معظمها بطريقة ساخرة. قبل ثماني سنوات؛ وتحديداً في مارس 2016م تحطمت رحلة فلاي دبي 918 في مدينة روستوف الروسية بسبب الطقس السيئ وعدم أخذ كابتن الطائرة «نظرية الشك» على محمل الجد، الطائرة التي أقلعت من مطار دبي متأخرة 40 دقيقة عن موعدها الأصلي واجهت ظروفاً جوية مضطربة في محطة الوصول، الأمر الذي أدى لإلغاء عملية الهبوط والبقاء في منطقة الانتظار لمدة ساعتين من الدوران في الجو ومتابعة الطائرات الأخرى، وهل تستطيع إحداها الهبوط أم لا، في هذه الأثناء حاولت إحدى الطائرات الهبوط ثلاث مرات ولم تستطع قبل أن يقرر قائدها تحويل الرحلة إلى المطار البديل، ورغم ذلك قرّر قائد رحلة فلاي دبي المحاولة مرة أخرى، وحينما حذّره مساعده من المغامرة وسط تدني الرؤية بشكل كبير أصرّ على موقفه فكانت النهاية المأساوية التي راح ضحيتها 62 شخصاً دون أن ينجو أحد، والقصص في عالم الطيران كثيرة حول أهمية الانتباه للشكّ ووجوب أخذ أدنى احتمالاته بمنتهى الجدية، فلا مكان إلا للأكيد في إجراءات وقوانين وتعليمات الطيران. يحتاج فني الصيانة لذلك عند فحص الطائرة أو القطع أو تركيبها أو عند وجود أي ملاحظة، ويحتاج قائد الطائرة لذلك عند اتخاذ أي قرار سواء في الحالات العادية أو الطارئة، ويحتاج المراقب الجوي لذلك عند إدارة الحركة الجوية وازدحام السماء بالطائرات التي تطير وفق تعليماته، كذلك يحتاج موظف العمليات لذلك عند قراءة المعلومات والبيانات التي يعتمد عليها في أداء مهامه. كل هذا لا يتم إلا بالتدريب الجيّد المستمر الذي يتم خلاله تعريض الأفراد لكافة الأحداث ومنحهم الخيارات لتعويدهم على اتخاذ القرار بأقصى درجات الدقة والثقة، والتعامل مع الشك على أنه البوابة التي تؤدي لليقين.