تذكرت قول أبي فراس الحمداني: وقال أُصَيْحَابي: الفِرارُ أو الرَّدَى فقلتُ: هما أمرانِ، أحْلاهُما مُرُّ .. هي تماماً حالُ من يتابع المشهد الدموي في قطاع غزة؛ فقد تجاوز عدد شهداء مذابح غزة 21 ألفاً، معظمهم أطفال ونساء. ولا يزال الباب مشرعاً للقتل والتدمير، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الهدنة، وهو احتمال يبدو (صعباً جداً)؛ لأن الآلة الحربية الإسرائيلية تحصر الحرب في هدفين؛ محو حركة حماس، وتحرير جميع الرهائن الإسرائيليين، خصوصاً (مزدوجي الجنسية). ولا بد أن أهالي غزة يدركون أن أي هدنة ليست من أجل صون أرواحهم ودمائهم، بقدر ما هي لمنح حماس فرصة لإطلاق الرهائن الذين تحتجزهم من هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. فما أن تنتهي الهدنة سيعود أزيز الطائرات وصوت الدبابات والقذائف؛ وهو ما يقود إلى تساؤل مشروع: لماذا أقدمت «حماس» على ما قامت به وهي تعلم علم اليقين أن أهل غزة، الذين من المؤكد أنهم ليسوا كلهم «إخونجية»، هم من سيدفع ثمن تصرفات «حماس» وقياداتها وزلمتها «أبو عبيدة»؟ لم تتعلم «حماس» شيئاً من دروس السنوات ال20 الماضية؛ بل استمرأت بيع الغزّيين أوهام النصر من دون أن يتوافر لهم أدنى قدر من الشروط. وواضح وضوحاً جلياً أن مخطط 7 أكتوبر تم إعداده مع أطراف إقليمية تسوّغ للعَوَام أنها قادرة على الوقوف بوجه العالم؛ ممثلاً في الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين، إلى درجة أن المتحدث باسم «كتائب القسام» المدعو أبو عبيدة أطلق فِرْيَة «وحدة الساحات»؛ وهي خطة شريرة لإشعال المنطقة برمّتها. وتعني «وحدة الساحات» وجود تنسيق كبير بين قوى ما يسمى «محور المقاومة الإسلامية»، لفتح جبهات عدة ضد الولاياتالمتحدة وإسرائيل: في الحدود بين لبنان وإسرائيل، واستهداف القوات الأمريكية في قواعدها في العراق وسورية والخليج، والزجّ بالآخرين في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. هل نجحت حماس في تحقيق أي هدف من هجومها على إسرائيل عدا اختطاف أطفال ونساء ومسنين؟ هل نجحت في تأجيج الجبهات تحقيقاً لشعار «وحدة الساحات»؟ ألم تقدِّر حماس أن هجومها على إسرائيل سيفتح «صندوق الشرور» (Pandora box) على المدنيين البسطاء، في أتون حصار مستمر على القطاع منذ 17 عاماً؟ لقد انهارت مزاعم «وحدة الساحات» من اليوم الأول لإعلانها. فقد ظهر «الحليف الأكبر» ل«محور المقاومة» وهو مُحجِم منذ اليوم الأول عن الالتحاق بالحرب؛ فبعدما أرسلت الولاياتالمتحدة حاملتي طائراتها، وغواصتها النووية أدرك ذلك «الحليف الأكبر» أن موازين القوى لا تسمح له بالمواجهة، إلا من خلال مناوشات المليشيات العميلة والوكيلة له، لأن تلك العاصمة تعرف أن أي تمدٌّد للجبهات (وحدة الساحات) سيؤدي إلى ضربها في العمق، وإلحاق الأضرار بها وبعملائها ووكلائها في الإقليم. تلك هي مشكلة حركات الإسلام «المسيّس»، ظلت تتصرف بتلك الطرق الرعناء منذ أكثر من 50 عاماً، وفي كل مرة يحيق بها الدمار، والخراب، وتتقلص قدراتها القتالية، وتصبح بلا قدرات حقيقية، إلا من الكلام الذي تبيعه للرعاع؛ ك«وحدة الساحات»، و«تحرير فلسطين من البحر إلى النهر»، و«إلقاء إسرائيل في بحر غزة». فعلها «المتأسلمون» المتطرفون مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في 1981، ولم ينجحوا في زحزحة السلام بين مصر وإسرائيل. وفعلوها منذ 30 سنة في السودان، حين وظّف النظام «الإخونجي» موارد السودان لتزويد حماس بالأسلحة، بالتهريب عبر سلسلة جبال البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وانتهى الأمر بغارات إسرائيلية في قلب الخرطوم وميناء بورتسودان. وفعلوها في اليمن بتمكين «المليشيا» التي نصبوها في صنعاء، والتي أفقرت اليمن وجوّعت أهله. وفعلوها في تونس، وكانت نهايتهم إسقاط نظامهم، واعتقال منظِّرهم راشد الغنوشي. الأكيد أنَّ من لم يتعلموا درساً على مدى عقود، لن يحققوا شعاراتهم الزائفة القائمة على استغلال الدين لمآرب سياسية؛ بل لم يحققوا هدفهم الأكبر وهو توحيد حركات التطرف الديني -على رغم تناقضاتها المذهبية المعروفة- ل«أسلمة» العالم بالقوة. لقد بدأت حماس مسيرتها المليئة بالإخفاقات بالخيار الخطأ؛ الانقلاب على السلطة الفلسطينية، وتقسيم البيت الفلسطيني، وكانت نهاية هذا الحلم تدمير غزة، واستشهاد أكثر من 21 ألفاً من أطفالها ونسائها ورجالها. وحين تسكت المدافع، وتتوقف لغة الدم، ورائحة البارود، سيفيق «الغزيون» على واقع جديد تماماً أن ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده!، ولن يكون أمام ما بقي من حماس سوى القيام بدور المشاغب القادر على إفساد الأمور (Spoilers)، ولا شيء غير «حماسة» الخسارة والهزيمة.