على حائط حمام الرجال بمطعم وبار Cole's العتيق في لوس أنجلس عُلقت لوحة كتب عليهاCHARLES BUKOWSKI PISSED HERE (هنا بال تشارلز بكوفسكي)؛ حيث أصبحت تلك الزاوية مزاراً لقراء بكوفسكي، كما استنسخت تلك اللوحة وصارت تُباع على مواقع الإنترنت بعشرين دولاراً للنسخة. والواقع أن زوار ذلك الركن الغرائبي لا يمكن تصنيفهم في خانة القراء، بقدر ما يمكن التعامل معهم كفيتيشيين؛ أي كموّثنين ومقدسين لبكوفسكي، ولكل ما يتعلق به سواء على مستوى الكتابة أو خارجها، إذ يشكل بكوفسكي حالة استيهامية لمحبي أعماله الكتابية وعشاق حضوراته الحياتية الاستفزازية، الموحية بالهيبية واللامبالاة، وهي مظهريات لم تحدث كلها بشكل عفوي كامتداد لشخصيته الأدبية، بل -أحياناً- بتوصية من ناشريه لتسويق كتاباته كما نُشر أخيراً. وهو الأمر الذي جعله مقدساً جماهيرياً، ليس في الغرب فقط، بل وصلت آثاره إلى العالم العربي بعد ترجمة الكثير من أعماله. بكوفسكي نموذج للكاتب الذي تمكن القراء من تحويله إلى وثن أدبي وحياتي، وذلك لفرط إعجابهم به. وبذلك خرج قراؤه من نصوصه إلى ذاته، عبر معالجة إكلينيكية تحفظ لنصه قدسيته وله ككاتب صنميته، حيث غدا القراء في حالة لهاث وراء الآثار البكوفسكية، المادية واللامادية، وذلك لتصعيد المادة الكتابية التي خلفها وراءه بالتلصص على حياته الشخصية المكشوفة أصلاً، وكأن نصه اللاأخلاقي لا يمكن أن يُقرأ خارج مزاجه الجنسي العنفي الممجد للإدمان المعادي للنساء وركام الأقاويل حول شخصيته، لدرجة أنهم أشاعوا بأنه بال على قبر والدته. كما شجعوه على قراءة شعره على المسرح وفي الفضاءات العامة وهو في حالة سُكر وعدوانية، وبصوت صاخب وأداء فوضوي إلى حد أنه، أحياناً، ينسى بعض المفردات والجمل، وذلك للتأكيد على قوة نصوصه في هتك النظام الاجتماعي الأمريكي، فهو ابن الذات والمجتمع الأمريكي النزق. لم تنفصل غرائبية أفعال بكوفسكي عن نصوصه وسيرته الأدبية، حيث نشر كتاباً شعرياً صادماً، كان عبارة عن صفحات بيضاء فارغة لإحداث ضجة حول ذاته، كما كتب رسالة إلى رئيس تحرير إحدى الصحف ادعى فيها أن كلباً اغتصبه. وكان يفتخر بأكل اللحم النيء. وفيما كان بعض القراء يعتقدون بعدم استقراره العقلي، كان موثنوه يدافعون عنه بضراوة ويدفعونه لمزيد من الاستفزازات الاجتماعية والأدبية بحجة اختراق العادي والمألوف من الآداب الاجتماعية والثقافية. وغالباً ما كان يتلاسن مع الجمهور بعبارات فجة بمساعدة قرائه، إذ اشتبك مرة مع أحد الحضور في محل بيع كتب في لوس أنجلوس عندما وصفه بالمعتوه بعد تجاوزاته اللفظية اضطر بعدها القائمون على المناسبة إلى إخراجه من المكتبة. كما تعرض لانتقادات عبر موقع على الانترنت مخصص لمحاربة خطابات الكراهية. وقد تمكن مقدسو بكوفسكي من إغلاقه دفاعاً عن قديسهم. كما جعلوا من قبره مزاراً يقرؤون عنده مقاطع من شعره ويتركون وراءهم علب البيرة وقناني الوسكي تخليداً لسيرته. ليس كل ما كتبه بكوفسكي يستحق الإشادة، وليس كل ما فعله أو افتعله من سيناريوهات استعراضية يستحق التمجيد، إلا أن قراءه ومحبيه وجدوا فيه ضالتهم ككاتب يتحدث عن صراعاتهم مع الوحدة والعزلة واليأس، كما تهبهم كتاباته الطمأنينة بأنهم ليسوا وحدهم في تجاربهم الحياتية البائسة. وكذلك يرون في قدرته على اختراق المحرمات بشقيها الأدبي والاجتماعي قوة أكيدة لوجودهم وتحديهم لقسوة العالم. وعلى هذا الأساس يقدرون صدقه وطاقته لاستكشاف الجانب المظلم من الحياة. فهو لا يخجل من البوح، ولا يهاب التصدي للموضوعات الصعبة، ولا يلطخ حقائق الحياة بنصوص تجميلية زائفة، ولذلك يحبون حتى غزارة إنتاجه وأخلاقياته المنحرفة، وقدرته على التحديق في قبح العالم وفضحه، وهو منحى يجد صداه حتى لدى النقاد. لم يمتثل بوك Buk، كما يسميه أنصاره، لتوقعات الآخرين، ولم يرتض لنفسه موقع الأديب المنفصل عن الناس والعالم، بل حول نفسه لشخصية عامة ووجد الجمال في الحياة العادية، لذلك جاء تواصله مع جمهوره على مستوى شخصي. وكان يصارح جمهوره حول فكرة الكحول التي جعلته يشعر بالاسترخاء والثقة، لدرجة أن قراءته للشعر، وهو في حالة سُكر، صارت جزءاً من شخصيته الأدبية والاجتماعية. حيث قدم بتلك القراءة الصورة الخام للوجود، وهو الأمر الذي جعله أشهر أبناء جيل البيت Beat Generation. وكان لكتاباته أثرها على الأدب الأمريكي، حيث أشاد به مجايلوه: آلن غينسبرغ وجاك كيرواك وويليام بوروز. كما اعتبرت كتاباته تعبيراً عن الأصالة والدعابة القاتمة الساخرة والقوة الغاشمة، إذ تمكن بكلمات قليلة وبسيطة تخليق منظومة من الصور والعواطف القوية، على الرغم من افتقار كتاباته للرؤية الأخلاقية واشتمالها على كراهية معلنة للنساء، واحتفاء بالإدمان وعدم احتوائها على رسالة إيجابية.