كانت سنتي الجامعية الأولى، والترقب لحرب تعيد إلى أذهان زملائي الجدد ذكريات طفولتنا في حرب الخليج الثانية، بعيدون عن السياسة وقريبون منها بحكم الأمر الواقع، ورغم انشغالي ببدايات الدراسة ومطالعاتي في الأدب والثقافة والفنون عامة، إلا أن هيبة الحرب تفرض نفسها، يومها كان الجديد في المشهد الإعلامي العربي قيد التشكل، لم تلفتنا العربية كثيرا في بداياتها كونها انخرطت في زحام البث المباشر لأحداث الغزو الأمريكي للعراق كبقية القنوات العامة والإخبارية في كل العالم، ورغم ذلك حجزت مكانها مبكرا على خارطة الريموت في كل بيت عربي. العام ألفين وأربعة بدأت العربية في لفت أنظارنا مع تسلم عرابها أستاذي القدير عبدالرحمن الراشد دفة قيادتها وإعادة صياغتها بسرعة مذهلة من بداية العملية التحريرية وصولا إلى مظهرها العام على شاشتها الوليدة، واضعة قدمها بقوة في الشأن السعودي الذي كنا نعايشه يوما بيوم مع تواصل معركة القوات السعودية لمكافحة عمليات تنظيم القاعدة التي استعرت في عدة مدن سعودية منذ مايو 2003، إحدى تلك العمليات مررت بجانبها صدفة -أبريل 2004- في طريقي إلى منزلي والقوات السعودية تطوق حي الصفا في جدة، قبل أن ينتهي المشهد بمقتل أربعة إرهابيين -أحدهم فجّر نفسه- لتتعالى بعدها هتافات سكان الحي احتفاء بأبطال القوات السعودية، ذات الهتافات ترددت أصداؤها على شاشة العربية نقلا عن قناة الإخبارية السعودية التي انفردت بحصرية النقل يومها. ذات العام بدأت رحلتي مع الصحافة، وكان من البديهي متابعة قناة بدأت خطف أنظار العالم بشكل جديد، كاسرة قوالب كثيرة في عالم العمل الإخباري الجامد، مذيعات ومذيعون يتكلمون لغة إخبارية رشيقة، وخِفة رصينة في تقديم الخبر بأشكال تحريرية مختلفة، لم أكن مهتما بالسياسة على الإطلاق، إلا أن العربية كانت مشهدا ممتعا بالنسبة لي أحرص على متابعته في مختلف ساعات يومي، أراقب، أرصد، أتأمل كافة التفاصيل المبهرة لقناة وليدة لم يمض على بثها أكثر من عام، إلا أن قائدها الجديد أتى إليها بفكرٍ صحافي مختلف ومدرسة صحافية مهمة رسمت تاريخ العربية منذ يومه الأول وحتى يومنا هذا، تجاوز الراشد على شاشة العربية مفهوم الأخبار بشكلها الممل في بقية القنوات، وذهب إلى دمج الخبر في كل تفاصيل الشاشة وبمختلف مجالات الأخبار، من السياسة إلى الاقتصاد إلى المجتمع إلى صراع التيارات المستعر في السعودية خصوصا، ومن هنا كانت حماسته لأحد أشهر البرامج في تاريخ الإعلام العربي وليست العربية فقط، برنامج إضاءات للصديق والصحافي المخضرم والدبلوماسي لاحقا تركي الدخيل، كان قد بدأ بثه إذاعيا على إذاعة بانوراما إف إم أواخر 2003، قبل أن يحلق به الراشد في العام 2004 على شاشة العربية ليصبح عنوانا أسبوعيا مثيرا ونقاشا ممتدا من الحلقة إلى الأخرى بيننا كطلبة جامعة، بدءًا من الأسلوب الحواري الجديد للدخيل وليس انتهاءً بضيوفه من مختلف التيارات، كان الصراع بين التيارات الفكرية مشتعلا في السعودية أيامها، وبدأ الهجوم على العربية والراشد والدخيل من التيارات المتطرفة بعد أن اتضحت ملامح العربية وشراستها في مواجهة التطرف وعزمها على نشر الوعي رغم كل التهديد والوعيد الذي وصل إلى منابر الجمعة في ذلك الوقت، خلف ذلك كله كان صحافي سعودي شاب يعمل بهدوء وإنجاز كبير بدعم مُطلق من الراشد، حينها كان فارس بن حزام محركا فاعلا للشاشة من الأخبار إلى البرامج إلى تقارير مكافحة الإرهاب والعمل على برنامج صناعة الموت الذي أقض مضاجع المتطرفين سنة وشيعة بفضحه أسبوعيا لأفكار التطرف وتسليط الضوء على خطورتها في كل المذاهب، لذا كان الهجوم مزدوجا على العربية من متطرفي السنة والشيعة، وإن كان صوت التطرف السني أعلى يومها بحكم صوته العالي في السعودية وانشغال متطرفي الشيعة بالسيطرة على الحكم في العراق وتمكين سادتهم في إيران من بسط نفوذها، هنا كان للعربية موقفها التاريخي من تلك الفترة، إلا أن الموقف الأكثر أهمية للعربية هو وقوفها في وجه ميليشيات حزب الله في حرب العام ألفين وستة، يومها كانت شعبية نصرالله لا حدود لها في العالم العربي، بما في ذلك داخل السعودية، هو المقاتل الذي أتى بعد سنوات لكسر هيبة إسرائيل، وهو ما لم تعترف به العربية إطلاقا، بل كانت تواجهه بكل أدواتها، وتتلقى سهام الهجوم من كل حدب وصوب، ليمضي الزمن وتثبت الأيام صحة موقف العربية ويظهر نصرالله ليقر بخطئه في الحرب، ويعلم الكثيرون أنه مجرد أداة إرهابية لا تقل بشيء عن إرهاب بن لادن وهو ما حاربته العربية في حين كانت قناة أخرى تحتفي بخطاباته وتفرد لها ساعات بثها. أواخر العام 2011 ومع ذروة اشتعال ما يسمى بالربيع العربي، وفي غداء ممتع في زيارة سريعة لدبي عرض عليّ الراشد بعد جلسة امتدت لأكثر من ثلاث ساعات الانضمام إلى العربية، لم أكن مستوعبا بشكل كبير أن حلمًا ظل يراودني لسنوات تحقق في جلسة بدت عابرة في بداياتها إلا أن نهاياتها كانت النقلة الأكبر في حياتي، ليكون مطلع العام 2012 بداية رحلتي الأهم في عالم الصحافة والإعلام بدعم كبير من عرابنا الراشد وليس انتهاءً بأساتذتي وأصدقائي فارس بن حزام ومساعد الثبيتي وعدنان السوادي، وكل الزميلات والزملاء في العربية والحدث، مرورا بمدير العربية الجديد الذي أتى إليها في وقت حساس بالنسبة للسعودية والمنطقة، عهد حكم جديد في البلاد، حرب جديدة في المنطقة لإعادة اليمن إلى حضنه العربي، وتحولات كبرى تتهيأ لها السعودية مع إعلان رؤيتها وانطلاق عراب الرؤية الأمير محمد بن سلمان في تحقيق أحلام السعوديين حلما تلو الحلم، كانت إدارة الدخيل للعربية نقلة أخرى في مسيرتها تستلهم مسيرة عرابها وتنطلق إلى مساحات إبداعية جديدة حيث السعودية محط أنظار العالم، والعربية كذلك التي قدمت عرضا إبداعيا خالدًا في ذاكرة مشاهديها أثناء تغطية الانتخابات الأمريكية 2016 وغيرها من كبريات الأحداث. العام 2020 كانت الجائحة التي شلّت العالم لكنّها لم تشلّ العربية، بل كان عام النقلة التاريخية في إطلاق أحدث استديوهات الأخبار في المنطقة والعالم، بقيادة صحافي سعودي شاب كان الوحيد طوال فترات الحجر والعمل عن بُعد، كان الوحيد حرفيا الذي داوم يوميا دون أي إجازة حتى عادت الأمور إلى نصابها واحتفلنا مؤخرًا بتاريخ عقدين من إنجازات العربية تحت قيادة ممدوح المهيني.. أخيرا: ستبقى العربية «أن تعرف أكثر» وأضيف: أن تبهر أكثر. * منتج أول في قناة العربية