جمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بين خبرات القائد، وكاريزما الزعامة، وسعة اطلاع المثقف، وتحقق المؤرخ الجامع بين الرواية والدراية، وفي مناسبة ذكرى يوم التأسيس، يسهم ويسهب في الحديث بموضوعية، مستعرضاً الركائز والمنطلقات الأساسية، القائمة على ثوابت شرعية سامية، وقِيم عربية أصيلة، ومبادئ إنسانية راقية، غايتها توطيد الأمن في المجتمع، وإقامة العدل بين الناس، وبناء مؤسسات تنظم شؤون الحياة، وترتقي مراتب التمدن، بالتوطين، والتعليم، والتوظيف، وإتاحة الفرصة لكل مواطن للإسهام في رفعة هذا الكيان الشامخ الممتدة جذوره لأعرق منابت الطيب والأصالة، وللملك سلمان حفظه الله كتاب (الأسس التاريخية والفكرية السعودية) نستعرض هنا أبرز موضوعاته: مكةوالمدينة مهد الإسلام وجذور العروبة أكرم الله عز وجل، المملكة العربية السعودية، وشرفها بوجود مكةالمكرمة، التي بها أول بيت وضع للناس، ومهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم التي يتجهون إليها في صلواتهم ودعائهم، ومسجد نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، فهذه البلاد أيضاً منطلق الإسلام والعروبة معاً. فلقد أنزل الله عز وجل في هذه الأرض العربية، القرآن الكريم بلغة عربية، وعلى نبي عربي، عليه أفضل الصلوات والتسليم، وانتشرت قبائلها العربية في كل مكان لتشكل النسيج الاجتماعي في كثير من الدول العربية. وقيادة هذه البلاد وشعبها يفتخرون أن بلادهم منطلق الرسالة وموئل العرب، ويدركون أن تلك مسؤولية عظيمة يتحملونها لخدمة وطنهم والإسلام والمسلمين. نظام الحكم يستمد سلطته من الكتاب والسنة بنيت هذه البلاد على الدين الإسلامي، ونص نظامها الأساسي في مادته الأولى على أن المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها کتاب الله تعالى وسنة رسوله، ونص نظامها الأساسي في مادتيه، السابعة، والثامنة على أن الحكم في المملكة العربية السعودية يستمد سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة، وأن الحكم فيها يقوم على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية. فكرة الدولة: مؤاخاة وتجاوز خلافات من المدينة المباركة (طيبة الطيبة) بدأت نهضة الدولة الإسلامية الأولى على الكتاب والسنة النبوية والمبادئ الإسلامية، من العدل والأمن والمساواة. وعلى هذه الأرض العربية التي هي منطلق العروبة والإسلام تأسست الدولة السعودية على المبادئ ذاتها متأسية بتلك الدولة الإسلامية الأولى وأسسها العظيمة التي تقوم على راية التوحيد، وتدعو إلى الدين الخالص، والنقي من أي ابتداع أو ممارسات ليست في الكتاب أو السنة وأقوال السلف الصالح. ومن المدينة انطلقت الدولة الإسلامية الأولى، في نشرها الدين والتوحيد، وتأصيل مبادئ الاستقرار، وأصّلت العلم الصحيح، وشجعت الإبداع والتفكير السليم. وأصبحت الجزيرة العربية ولأول مرة تعيش في استقرار ووحدة متماسكة، ذات دولة مركزية تقوم على الدين الصحيح، لا على أيديولوجية فكرية ولا على عصبية، أو مصالح ضيقة لا تخدم الأمة. ومن الدروس المهمة التي تلفت النظر في بناء هذه الدولة الإسلامية ما قام به المصطفى عليه الصلاة والسلام من المؤاخاة المهمة بين الأوس والخزرج في المدينةالمنورة ليصبحوا إخوانا متحابين في الله، متجاوزين خلافاتهم الماضية. الدولة السعودية امتداد لمراحل العهد النبوي اقتدت الدولة السعودية بما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الأنصار، وهم من العرب القحطانيين مع إخوانهم المهاجرين من قريش، وهم من العرب العدنانيين ليشكلوا اندماجاً عربياً واضحاً مبنياً على الدين لا على العصبية، وأسهم الجميع في تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في العهد النبوي، وعهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم. تدهور جزيرة العرب.. والمربوعة نموذج الفرقة قامت الدولة الأموية وانتقلت العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم إلى بغداد في عهد الدولة العباسية، ودخلت الجزيرة العربية عصراً مختلفاً عن عصرها الزاهي الأول، إذ انتشرت فيها الفوضى، وغابت الدولة، وظهرت إمارات متعددة اشتغلت بقتال بعضها بعضاً، وأصبح الحاج لا يأمن على نفسه في طريقه لأداء ركن مهم من أركان الإسلام. وعاشت الجزيرة العربية قروناً من قرون الظلام أصبحت بعيدة عن الأحداث التاريخية في عصرها الحديث، ولم تعد مركزاً للاهتمام والعناية، سوى القدوم إليها للحج أو زيارة الأماكن المقدسة مع الأخطار الشديدة، وأصبح قلب الجزيرة العربية منعزلاً عن العالم من حوله، منقسماً إلى إمارات متناحرة يعيش في أغلبه حياة ملأى بالخرافة وانعدام الوحدة التي عاشتها الجزيرة العربية في أيام الدولة الإسلامية الأولى، وأصبحت كل بلدة يحكمها فرد ينازعه آخر، وأصبحت القبيلة في حروب ضد الأخرى، وغابت الولاية وانعدم الأمن. لقد أصبح في كل إقليم دولة، وفي كل قبيلة دولة، وداخل كل دولة من هذه دول متنافرة ومتناحرة، بسبب غياب الدولة المركزية القائمة على راية الدين كما حدث في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين. ومن خلال السوابق التاريخية يتجلى ما كانت عليه أحوال الناس في المنطقة في القرون التي سبقت منتصف القرن الثاني عشر الهجري (القرن الثامن عشر الميلادي) تلك الأحداث التي تتحدث عن عدم الاستقرار والقتل والتسلط وضعف الدين، واقتسم أربعة رجال الحكم في بلدة واحدة من بلدان نجد الصغيرة في سنة 1120ه. كما وثق المؤرخ عثمان بن بشر: (فقسموا البلد أربعاً كل واحد شاخ في ربعها فسموا المربوعة أكثر من سنة، وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة، ولا تعرف الأشياء إلا بأضدادها، فإن هذه قرية ضعيفة قليلة الرجال والمال وصار فيها أربعة رجال كل منهم يدعي الولاية على ما هو فيه). عودة الطمأنينة بظهور الدولة السعودية استمرت أوضاع الجزيرة العربية الملأى بالانقسام وعدم الأمن وضعف الدين، وانتشار الإمارات والتناحر بينها إلى أن ظهرت الدولة السعودية التي أعادت للمنطقة الدولة المركزية القائمة على الدين مثل ما حدث في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين. وقامت الدولة السعودية على أساس الدين، وكان لها الأثر الكبير من حيث الأمن والاستقرار والازدهار. بنو حنيفة يرفعون راية آل سعود من الدرعية تأسست الدولة السعودية في قلب الجزيرة العربية، وعاصمتها الدرعية نسبة إلى الدروع أجداد أسرة آل سعود الذين أسسوها في منتصف القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) وهم من قبيلة بني حنيفة المعروفة بتاريخها القديم في المنطقة، وعرف الوادي الذي يمر في قلب الدرعية باسمهم (وادي حنيفة)، تلك القبيلة التي ساندت الدولة الإسلامية الأولى. فمنذ إسلام ثمامة بن أثال الحنفي، ملك اليمامة، في عهد المصطفى، إثر ربطه بسارية في المسجد النبوي ثم إطلاق سراحه ليعود مسلماً وليواصل رحلته إلى مكةالمكرمة حاجاً وملبياً بصفته أول مسلم يطلق التلبية في بطن مكةالمكرمة. ولقوة بني حنيفة ومنعتهم في اليمامة وما تنتجه بلادهم من الحنطة والحبوب التي يعتمد عليها الحجاز في مؤونته، منع ثمامة التموين عن قبيلة قريش معلناً بذلك أول حصار اقتصادي في الإسلام، ليرغم قريشاً على الإذعان للمصطفي صلى الله عليه وسلم إلى أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام ثمامة باستمرار التموين رأفة بالناس ورحمة بهم. استجابة آل سعود لنداء ابن العم درع عاد أجداد أسرة آل سعود إلى منطقة اليمامة، استجابة لدعوة ابن عمهم ابن درع، إذ قدم مانع المريدي جد الأسرة من بلدته المسماة بالدرعية في شرقي الجزيرة العربية إلى الدرعية الجديدة، والتي أقطعها لهم ابن درع في مكانين هما (غصيبة والمليبيد) اللتان حملتا الاسم الجديد القديم (الدرعية) نسبة إلى قبيلة الدروع من بني حنيفة، وذلك في عام 850ه. وأخذت الدرعية الجديدة مكانها في قلب الجزيرة العربية فتأثرت بالأحداث والأوضاع من حولها، ولم تكن في بداية تاريخها بأحسن حالاً من البلدات الأخرى المجاورة من حيث التنازع على الرئاسة فيها، وكان المحيط من حولها يمتلئ بالفوضى وعدم الاستقرار وتعدد الزعامات والإمارات المتناحرة وضعف الدين. محمد بن سعود رمز التأسيس تولى الأمير محمد بن سعود بن محمد بن مقرن الإمارة، فأدخل الدرعية مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها من حيث التأسيس للاستقرار، وتقوية دعائم الدولة والسلم الاجتماعي. فكانت أول خطوة اتخذها الأمير محمد بن سعود، عندما تولى إمارة الدرعية في عام 1139ه (1727م) أن وحد شطري الإمارة وهما غصيبة والمليبيد بعد انقسام طويل. ويأتي توحيد هذين الجزءين للدلالة على سياسة الأمير محمد بن سعود التي رمت إلى تغيير الحال الذي لم يكن مقبولاً، وحرصت على إقامة دولة موحدة ذات مركز وقوة، لتخدم الناس وتحميهم وتنشر الدين. وأصبحت إمارة الدرعية بفضل الله ثم نتيجة لسياسة أميرها محمد بن سعود إمارة مستقرة ومزدهرة من بين إمارات كثيرة في محيطها كانت تعاني الفوضى وعدم الاستقرار. وعرف عن الأمير محمد بن سعود تمسكه بالدين والتزامه به، وكثرة أعماله الخيرية، وشهدت الدرعية في عهد أميرها محمد بن سعود نشاطاً علمياً ملحوظاً لعدد من العلماء والقضاة، مثل: الشيخ عبدالله بن عيسى، والشيخ عيسى بن قاسم، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن سويلم، والشيخ أحمد بن محمد بن سويلم. وفي هذه الأثناء التي بدأت فيها إمارة الدرعية تستقر، وتزدهر بفضل الله عز وجل ثم بفضل أميرها محمد بن سعود، كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب يدعو إلى الدين ومناهضة البدع والخرافات في المنطقة نتيجة لما استفاده واستقر في ذهنه من دعوات سلفية صحيحة اطلع عليها خلال دراسته، ولما تلقاه على يد والده وعدد من العلماء الأجلاء في مكةوالمدينة والأحساء والبصرة، الذين كانوا يناهضون انتشار تلك البدع وغياب الدين الصحيح. وبدأ الشيخ محمد دعوته في حريملاء بشكل يسير، ثم انتقل إلى العيينة ليبدأ فيها بالدعوة وتطبيقها، وعندما كان الشيخ في العيينة التف حوله كثير من طلاب العلم، وكان بينهم أخوا الأمير محمد بن سعود: ثنيان ومشاري وابنه عبدالعزيز وعدد من علماء الدرعية، مثل الشيخ أحمد بن سويلم، وهو ما يدل على الأثر الذي أحدثه الأمير محمد بن سعود في إمارته من جهة، والتزام أسرته بالدين ومحبتهم للعلم الشرعي قبل انطلاق الدعوة من جهة أخرى. ونظراً لاستقرار إمارة الدرعية في عهد أميرها محمد بن سعود واستقلالها عن أي نفوذ خارجي، وقوة حاكمها وعدله وتمسكه بالدين هو وأسرته، ولوجود عدد من العلماء الذين عرفوا بالالتزام وتتلمذوا على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العيينة، فقد رأى الشيخ محمد بن عبدالوهاب الانتقال من العيينة التي لم تستمر بالاستجابة لدعوته بسبب عدم استقلال القرار السياسي فيها إلى الدرعية التي أصبحت المكان الملائم لنشر الدعوة وتأييدها. وكان انتقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب من العيينة إلى الدرعية مبنياً على رؤية دقيقة ترتبط بالتاريخ والواقع. فالتاريخ سجل ما قامت به قبيلة بني حنيفة للدولة الإسلامية الأولى ونشر للدين والأمن من تأييد، وما قامت به أسرة الأمير محمد بن سعود من تأسيس إمارة قوية تتسم بالعدل والاستقرار، والواقع شاهد على وجود أمير أرسى دعائم الوحدة والاستقرار في إمارته المحدودة، والتزم بواجبات الدين ومتطلبات الدعوة، وأحب أهلها من العلماء والقضاة. التوحيد أساس الوحدة لا ريب أن التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، والحوار التعاهدي بين أمير أسس إمارة قوية ومستقرة ومهيأة حمى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وجعل اتجاهها نحو الدين أساساً من أسسها، فالإسلام هو منطلقها لا العصبية أو النسب. وأصبحت هذه البيعة ركناً أساساً من أركان الدولة السعودية إلى اليوم بحيث تلتزم بتأسيسها على الدين الصحيح. هذا الركن الأساس هو الذي ميز الدولة السعودية عن غيرها بحيث لم تقم على أيديولوجية فكرية أو عصبية قبلية أو إقليمية، وإنما قامت على أساس راية التوحيد التي يلتف حولها الجميع من أسر وقبائل، حاضرة وبادية. ومع أن الإمام محمد بن سعود من أسرة تعود في أصولها إلى بني حنيفة وتسكن في الوادي الذي يسمى باسمها فإنه لم يؤسس الدولة على عصبيته أو قبيلته، بل تجاوز ذلك ليؤسسها على الدين ويلتزم هو وأبناؤه وأحفاده إلى يومنا هذا بهذا التأسيس وبهذا الامتداد الذي يماثل ما تأسست عليه الدولة الإسلامية الأولى. وبهذه المبايعة التاريخية بدأت أسس الدولة السعودية الأولى التي تقوم على الدين. وانتشرت دعوة التجديد والإصلاح هذه في ظل دولة تسعى نحو تأمين الاستقرار للناس، وتوحيد البلاد للقضاء على الفوضى وانعدام الأمن. وتطورت الدعوة بمؤازرة الدولة، واكتسبت قوتها وانتشارها من قوة الدولة وامتدادها، فالدعوة الإصلاحية لم تكن لتستطيع التأثير والانتشار إلا مع امتداد الدولة وانتشار نفوذها في شبه الجزيرة العربية. وجه الشبه بين دولة المدينة والدولة السعودية ثمة وجه للشبه بين قيام الدولة السعودية في العصر الحديث في شبه الجزيرة العربية، وبين عصر الرسالة الخاتمة والخلفاء الراشدين من توحد شبه الجزيرة تحت راية الإسلام وعقيدته الصحيحة، وذلك لأن الإسلام هو العامل الأساس في توحيدها وقيام دولة مركزية، ولأن الدعوة الإصلاحية في العصر الحديث ليست سوى فهم صحيح للإسلام، وعودة إلى منابعه الأولى في إصلاح حياة الناس، والارتقاء بالمجتمع المسلم في شبه الجزيرة بعد قرون من التأخر والضعف وعدم الاستقرار. ولا شك في أن قيام الدولة السعودية الأولى وانتشارها الواسع في شبه الجزيرة العربية وتأثيرها الكبير في محيطها المجاور ونجاحها في إرساء الاستقرار والأمن والحكم الرشيد، وفي القضاء على الخلل السياسي في المنطقة وإيجاد الدولة المركزية الموحدة. نقمة القوى التوسعية على الدولة الناشئة نقمت الدولة العثمانية على الدولة الناشئة، فلم تقبل هذه الدولة الجديدة، التي تمتلك مقومات القوة والاستمرار. لذا بدأت الدولة العثمانية بإطلاق مصطلح (الوهابية) على تلك الدعوة لتنفير المسلمين من هذه الدولة، ومبادئها الصحيحة، يقول خير الدين الزركلي: «تحرك ساكن النقمة على آل سعود في عاصمة آل عثمان وانتشرت الخشية من أن يشتد ساعد قلب الجزيرة العربية فيسترد أهلها عزتهم ومنعتهم». وعمدت الدولة العثمانية إلى سلاحين، هما: إرسال الحملات العسكرية الضخمة التي ربما لم يرسل مثلها إلى دول غير مسلمة، واتخاذ سياسة الافتئات والتنفير والدعاية بأن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب مذهب خامس، ومع سقوط الدولة السعودية الأولى في عام 1233ه/1818م بسبب حملات الدولة العثمانية الضخمة، فإنها عادت مرة ثانية، ومرة ثالثة. ولقد توقع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان الذي عاصر سقوط الدولة السعودية الأولى عودة الدولة السعودية مرة أخرى بسبب جذورها التاريخية وأسسها الدينية المتأصلة في المنطقة، وكان توصل إلى هذا الاستنتاج من خلال ما سمعه وتعرفه آنذاك من القادمين من الدرعية إلى القاهرة بعد سقوط الدولة السعودية الأولى مباشرة، وكتب في عام 1239ه/1824م قبيل تأسيس الدولة السعودية الثانية: «ولكن ذلك البلد يضم في جنباته بذور الحرية والاستقلال، فما زالت المبادئ نفسها موجودة، وقد ظهرت منها بعض البوادر، ومع أن أسرة آل سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد» (ولأن أسسها قوية وأصيلة وآثارها ملموسة وشاملة، عادت الدولة السعودية إلى الظهور من جديد على يد الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، وقام بتدعيمها ابنه الإمام فيصل بن تركي، ثم انتهت في عام 1309ه/1891م. على يد المغفور له الملك عبدالعزيز تأسست الدولة السعودية الممتدة وتمكن هو ورجاله الذين لم يتجاوزوا الثلاثة والستين رجلاً من استعادة الرياض في عام 1319ه/1902م، ثم توحيد البلاد وتأسيس المملكة العربية السعودية بفضل الله عز وجل، ثم بمساندة عدد كبير من رجاله المواطنين من جميع أنحاء البلاد. يقول خير الدين الزركلي: «وثب عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود فقضى على من كانت الدولة العثمانية التركية تغذيهم وتمدهم وتقويهم... وتلفت الناس يتساءلون عن الوهابية: أين هي؟ فلا يجدونها، وإنما يجدون إسلاماً صحيحاً ومذهباً حنبلياً ينتشر بين سائر مذاهب الإسلام». الملك عبدالعزيز يرفض مسمى الوهابية يقول الملك عبدالعزيز – رحمه الله – كما ورد في صحيفة أم القرى: «يسموننا الوهابيين، ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض .. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد، أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا». وقال رحمه الله: «فهذا كتاب الطحاوية في العقيدة الذي نقرؤه، شرحه الأحناف، وهذا تفسير ابن كثير وهو شافعي»، وأنا هنا أدعو أولئك المنساقين وراء هذه الادعاءات والاتهامات الموجهة ضد الدولة والدعوة، إلى العودة إلى تراث الشيخ محمد بن عبدالوهاب والبحث في ثناياه عن أي شيء يخالف الكتاب والسنة النبوية المطهرة، ولن يجدوه. أين الجديد أو الاختراع في هذه الدعوة حتى يطلقوا عليها أشنع الألقاب والصفات، ويصموها بأنها تتضمن أشياء غريبة خارجة عن الدين الإسلامي؟! وإذا كانت الوهابية اتباع القرآن الكريم وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وما كان عليه السلف الأول فنحن فخورون بهذا، أما إذا كان الهدف التنفير ولصق التهم لمنع مسيرة دولة تقوم على الدين الإسلامي والمصلحة الاسلامية العامة فنحن رافضون لهذا المصطلح. منطلقات راسخة يؤكد استمرار الدولة السعودية بالرغم من المواجهات والمواقف، وعودتها إلى الظهور والاستمرار إلى يومنا هذا، قوة شرعيتها القائمة على المصادر الإسلامية الصحيحة، ومن منطلق أن هذه البلاد واقعة في معقل الإسلام وداره الأولى، وأنها قصبة الديار الإسلامية، وقبلة المسلمين في كل مكان على هذه الأرض، ومهوى أفئدتهم، وليس لهم قبلة غيرها، فهذه الدولة الإسلامية تتمسك بدين الله، وترعى وتخدم الحرمين الشريفين، وفي عهد الملك عبدالعزيز، وأبنائه الملوك: سعود وفيصل وخالد وفهد والملك عبدالله رحمهم الله، ترسخت المنطلقات، وشاعت الثوابت، وأجمعت عليها القيادة والمواطنون. قال الملك عبدالعزيز في رسالة له موجهة إلى العلماء: «إن أسباب الشر كثيرة ولا بد أن يحصل من الناس بعض اختلاف آراء، أحد يبحث عن المخالفة، وأحد يبحث عن الترؤس، وأحد جاهل يريد الحق ولكنه خفي عليه سبيله فاتبع هواه، وهذا كله أمر مخالف للشرع، والحمد لله لسنا في شك من أمر ديننا، وتفهمون أنه منذ أظهر الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب في قرن أطيب من وقتنا، ورجال أطيب من رجالنا، وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله به أمر هذا الأصل، وأنقذ بأسبابه الناس من الضلالة، فبان أمره لأولي البصائر، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند فأزاغ الله قلبه وأعمى بصيرته». وبفضل من المولى عز وجل أولاً، ثم بفضل جميع المواطنين في هذه البلاد من جميع الأسر والقبائل حاضرة وبادية في أنحاء هذا الوطن. الذين قدموا الجهد والتضحية والالتزام الثابت بمبادئ الدولة الصحيحة، ولقد بنى هؤلاء جميعا هذه الدولة وأسهم علماء وأعيان ومتخصصون ومعلمون وإداريون وعمال وحرفيون ومزارعون ورجال أعمال وفنيون وعامة الناس، وليس هناك أسرة أو قبيلة في هذه البلاد إلا ولآبائها أو أجدادها مشاركة فاعلة في توحيد البلاد وبنائها وتعزيز قوتها ورسالتها. والجميع في هذا الوطن جزء لا يتجزأ من هذا الإنجاز التاريخي لهذه الدولة المباركة، وأسهموا في بنائها ووحدتها وتماسكها. معطيات العصور ومرونة السياسة أكد الملك عبدالعزيز على أن شرعية هذه الدولة هي في منهجها وتاريخها الطويل الذي بدأ ببيعة شرعية للالتزام بالدين الصحيح منهجاً ومسلكاً في الحكم والبناء السياسي والاجتماعي، مع الأخذ بما يقره الدين من معطيات العصر الحقيقية التي تفيد الناس والمجتمع، ولا غنى للبلاد عن أسس قوية متينة تمنع العودة إلى الفوضى والتخبط الذي لا نهاية لجدله ولا فائدة من مبادئه. (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). خطابات الملوك أبوية خاطب الملك عبدالعزيز جميع المواطنين في أثناء زيارته المدينةالمنورة في محطة العنبرية في 21 من ذي القعدة سنة 1346ه بخطاب الوحدة الوطنية والأسس التي تقوم عليها الدولة، قائلا: «إنني أعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألفوا بين قلوبكم لتساعدوني على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقنا، إنني خادم في هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدين وخادم للرعية. كما أوصي بالتناصح فإن الدين النصيحة... إن على الشعب واجبات، وعلى ولاة الأمر واجبات، أما واجبات الشعب فهي الاستقامة، ومراعاة ما يرضي الله ورسوله ويصلح حالهم، والتآلف والتآزر مع حكومتهم للعمل في ما فيه رقي بلادهم وأمتهم، وأما واجبات ولاة الأمر فهي أن يقوموا بالواجب عليهم نحو شعبهم، وينصحوهم ويخدموهم، ويقوموا بكل ما فيه مصلحة المسلمين وفائدتهم». ختاماً إن وحدة هذه البلاد وتماسكها مستمر بإذن الله إذا حافظ الجميع على هذه الأسس، وما يتصل بها من منهج يعضد هذا التلاحم الذي غذاه الجميع من حاضرة وبادية، ولا يزال يغذيه الجميع اليوم من أبنائهم، معتمدين على الله عز وجل، ثم على أسس هذه البلاد التي تعلي راية التوحيد. وتظل دولتنا رافعة لواء العدل، وتتسم بالأصالة والمصلحة العامة، وترتبط بالدين الإسلامي وترعى مبادئه ومنهجه، وتعد من ثوابت المملكة العربية السعودية التي لا تتغير أو تتبدل لإرضاء تيارات فكرية أو توجهات سياسية أو مصالح ذاتية، وإنما تظل وفية لجذورها ومبادئها العظيمة القائمة على الدين وراية التوحيد التي لا تتبدل أو تتغير.