منذ شهر، هاتفني من باريس، وكان ذلك إثر عودتي من تونس. فقلت له حزينا ومهموما: إنهم يحاربونني في بلدي بشراسة، فقط لأن المصريين والعرب يلقبوني بالكينغ يا أدونيس، ويشهد الله، إنني، مثلك، أكثرهم تواضعا، مع غير المغشوشين طبعا، وأنت تعرفني وتدري نوع معدني جيدا. فرد علي ضاحكا بوهن من خلال موجة من السعال الحاد: أنا اخترت قبلك لقبي (أدونيس)، منذ كنت في العشرين من العمر، وهم ما زالوا يحاربونني منذ ستين سنة يا كينغ، فلا تحزن منهم ولا عليهم، وأجب دائما بكتاب جديد أبقى منهم ومنك، لا تنس ذلك أبدًا يا صديقي القيرواني. فسكت دقيقة، وقلت له: يا عجوز كم أحبك، ولن أرضى أن يرثيني أحد غيرك، وأتمنى ألا تمت قبلي وإلا لن أكون نديمك، حين تلتحق بي ويعلنون لنا عن وصول قافلة روحك المحنكة، وأنا أعنى ما أقول.... كثِيرونَ هُم الذين يعرفون جيدًا من هو أدونيس الشاعر، من خلال مُجمل منجزه الشعري ونصوصه الفصوص أو من خلال منجزه النّقدي المتين. لكن قلة هم الذين يعرفون علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) الإنسان عن قرب. ومؤكد أن الشاعر، علي أحمد سعيد (أدونيس) الإنسان الطيّب الودود المنطلق المرح المتوقد، هوّ نفسه الذي اختار ومنذ سنوات شبابه الأولى، وتحديدًا منذ سنة 1948 أن يتوارى خلف لافِتةِ أدونيس الشاعر، المفكر، المهموم، الباحث، الرائي، الحذر، الرصين، المسكون، الصوفي، الفيلسوف، حتى عاد الجميع يستحضرونه في ذاكرتهم، اسمًا ورسمًا، كعلامة مميزة للجدية والعمق والنفاذ والحكمة. وقليلون يعرفون مثلاً، أنه أب رائع لبنتين لؤلؤتين من الجُمان هما (أرواد إسبر - وابنته الثانية: نينار إسبر) التي نشرت معه سنة 2010 حوارات فاتنة، عنونتها ب(أحاديث مع والدي أدونيس)، استجوبت فيها والدها على مدى عشر مقابلات حميمة جدًّا، حول نشأته وثقافته وعن الشعر والوطن، وعن المرأة والحجاب والديانات التوحيدية والإرهاب، وقليلون يعرفون أنه أنجبهما من زوجته الكاتبة والناقدة الكبيرة (خالدة سعيد)، شقيقة الشاعرة سنية صالح زوجة الشاعر والكاتب السوري الكبير (محمد الماغوط). وأنه زوج محبّ عاشق، منذ 1956، تاريخ اقترانهما، وأنه أب يفيض رقّة وعذوبة. ففي 1930 وفي عمق إحدى القرى الفقيرة قرب مدينة جبلة في محافظة اللاذقية، تُسمى القصابين، وهي عبارة عن بيوت طينيّة أو قل هي أكواخ من الحجر المسنون والطين المحروق، وُلد شاعرنا الكبير. وكان يضرب في الأودية الموحشة، ساعيًا إلى الكُتَّاب، حافي القدمين، مشوّش الذهن، وجلاً، ليصل بعد ساعتين ويقرفص مع الصّبية، يفكّ شفرة لغة تبدو متكلّفة وتتفصد مراهمًا وزيوتًا قبل أن ينتبه إلى كم العذوبة في صليلها وهسهستها وسقسقتها وعمقها. ولم تكن اللغة العربية الصارمة، لتبيح نفسها بسهولة، وهي التي ترفل في ثوب خشن من القواعد والصناديق والعلامات والقوانين. لا تُسرع، هذا لهبٌ... لا تتمهل هذا خببٌ... والروح جامحة، والحال ضيق والمعدة تشدّ بتلابيب الجسد الضّامر المكدود... وحين يعود معفرًا بالطين والتراب، كانت أمّه تجلسه في قصعة الغسيل، وحين كان يصرخ ويتملص منها باكيًا وصارخًا من حرقة رغوة الصابون في عينيه، كانت تشده شدًّا وتقول له بنفاد صبر، وأحيانًا بهدوء ملهم: قلت لك أغمض عينيك عندما أغسل رأسك يا كبدي. ويكبر علي أحمد سعيد، وينجو من النهر الذي كاد مرات أن يبتلعه وهو هائم في تقدير المسافة الفاصلة والممكنة بين ضفتيه. يكبر وصوت أمه يمسح عن عينيه رغوة الصّابون، مذكرة إياه أنّ عليه أن يُغمض عينيه حين يُغسل رأسه. يكبر، دون أن ينسى الوصية أبدًا، فتعود أن يُغمض عينيه حين تحرقه العبارة أو المعنى، فيراها غير ما نراها، ويستدرجها فتطيع، ويناديها فتحضر، ويلاطفها فتلين، ويشكو لها فتذبل وتتنهد وتهيم. وتمرق الطفولة قدّامه كأرنب بري، إلى أن يبلغ سنّ الثالثة عشرة سنة فيعتريه نداء ملح أن يواصل تعليمه بمدرسة أكبر وأوسع، ويسمع من بعض من سبقوا أنّ المدارس جدران من الحجر الملوّن ومصاطب مبلطة وألوان بديعة وبنات كالورد وأناشيد وفطور صباح ولكنة أجنبيّة مدوّخة وفاتنة. ولأنّ القدر يستجيب حين نصرّ، ويتهيأ أسبابًا، فقد حدث سنة 1943 وأن شكري القوتلي أوَّل رئيس للجمهورية السوريّة بعد الاستقلال زار منطقة اللاذقية، ضمن برنامج زيارته وتفقده للمناطق السورية ورغبته في التعرف عن قرب إلى شعبه. وانتهزها الشاب - الطفل الألمعي علي أحمد سعيد، ففكّر أن يكتب قصيدة يلقيها أمامه مرحبًا، وقدر بل كان على يقين مسبق بأنها سوف تعجبه وأنه سوف يطلبه ليراه، وحينها، سيكون بإمكانه أن يطلب منه مساعدته على الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، شاهقة الأسوار هناك في القرية المجاورة وراء ذلك النهر المتربّص، وفعلاً، كان الأمر كذلك، وبعد تقديمه لقصيدة أمام رئيس الجمهورية دعاه الرئيس شكري القوتلي سائلاً إيّاه: - ما الذي تنشد وتريد يا بُني؟ - أريد أن أدخل المدرسة، أريد أن أتعلم؟ أجاب الطفل الشاعر. - لك ذلك. أنت جدير بأن تكون مهمًّا في هذا البلد. وفعلاً، أنجز الرئيس ما وعد، ودخل أدونيس مدرسة اللاييك بطرطوس على نفقة الدولة. ثم حدث بعد ذلك أنه تابع دراسته الثانوية في اللاذقية. وحين بلغ السّابعة عشرة من عمره، كانت روحه المستوفزة شعلة متوقدة محصورة في جسد نحيل مشدود بين أصابع أقدام متورمة من كثرة الارتطام بالصخور وهو يقدح بها الأرض ذاهلاً ومستغرقًا، وشعر فاحمٍ منفوش كعش من الشوك على ربوة. أيّامها، كان قد بدأ في كتابة قصائد شعريّة ونصوص نثريّة تفور حماسة وتمور بفورة الشباب والإقبال النّهم على السؤال والاستفسار عن المعنى والجوهر ويحاور العناصر والأسباب بنفاد صبر واستنكار، وكان يرسل بنصوصه كلّ يوم تقريبًا إلى عدّة مجلات ومنابر عبارة عن أركان وملاحق أدبيّة بصحف سياسيّة محليّة، لكنّ صبره نفد وهو ينتظر الأسبوع بعد الأسبوع، والشّهر إثر الشهر، دون أن يرى نصوصه منشورة. ويا كم غاظه ذلك. ويا كمّ غير حياته فيما بعد، وحدث أيّامها وأن وقعت في يده مجلة أسبوعية قرأ فيها مقالة عن أسطورة أدونيس: ذلك الفتى الأسطوري الجميل الذي عشقته عشتار وهامت به، وكيف قتله الخنزير البري، ثم كيف كان يُبعث كل سنة في فصل الربيع، فأثّرت فيه الأسطورة بشدة ورجّته رجًا وقرر من يومها أن يبادر، وفورًا إلى استعارة هذا الاسم الملهم ويوقّع به نصوصه.. وحدّث نفسه، أنّ ما يحدث له شبيه بما يحدث لأدونيس في الأسطورة، وبأنّ هذه المنابر والصحف التافهة المتعالية الظالمة مثلها كمثل الخنزير البري، تحاول أن تصرعه وتقتله بهذا التجاهل الموجع. ومن يومها، كان أدونيس. وما أن بلغ العشرين من العمر، حتى قرّر أن تكون وجهته دمشق، فالتحق بكليّة الحقوق منبهرًا بمجد خريجيها وسلاستهم، وظن أنه طريقه المنذور، لكنه لم يصمد بالطبع أكثر من سنة واحدة لم يُكملها، ليدرك أنّ حفظ قوالب القانون الصارم، ومناهج الدراسة المتجهّمة، ليست ما ينشد، فانتقل إلى كلية الآداب، مسجّلاً نفسه بقسم الفلسفة، ذلك أنه كان على يقين تام، بأن قسم اللغة العربية أكثر بلادة من أن يحتمله. وأن ما سيضيعه من سنوات في دراسة الشّعر الجاهلي الذي كان على كلّ حال يلمّ به، سيكون مثله كمثل من يغرف قهوته الساخنة بشوكة، ليبرّد حرارتها. في حين أنّ قسم الفلسفة، كان سيتيح له إجابات عن أسئلة ترهقه وتضنيه. كما أنّ قراءاته الفلسفية أيامها، كانت متينة، وأغراه كانط وهيغل وديكارت واستفزه نيتشه وبشلار ومونتسسكيو وألهب السؤال الفلسفي حماسته، فلم يتردد وهمّ بالكتب والملاحق والبحوث، يعبّ منها عبًّا وبنهم، دون أن يهمل الجانب السياسي، فانخرط في الحزب القومي السوري، وفي هذه السنة، تعرّف إلى زوجته وحبيبته ورفيقة دربه، الباحثة والمفكّرة والناقدة خالدة سعيد التي سيقترن بها بعد التخرّج مباشرة والتي كانت أيامها طالبة من خارج الجامعة وتدرُس أيضًا بدمشق في (دار المعلمات). في هذه الفترة، وتحديدًا في بداية سنة 1955، كانت دمشق تغلي وتمور سياسيًّا وأدبيًّا. كان نزار قباني قد بدأ يفرض نفسه كشاعر متفرّد يحلّق بعيدًا عن السرب بلغة نافذة وقاموس ليّن كالماء وصلب كالصّخر، يفيض فيهدر، ويتجمّع لينتشر ويضوع ليلهب ويخطف الدّهشة والإعجاب من الجميع، يتطلّع له الشرق والمغرب العربي كلّه وهو يهمهم، أنّ الشعر هذه المرّة سيبزغ من جديد من هناك. من سوريا. ومن قصور وحدائق وحرائق دمشق. وكان الشّاعر بدوي الجبل يطلّ من علياء، حاضنًا الضمير والرؤية والرؤيا معًا. وكان الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، يعيد تفكيك وترتيب العناصر في شعره بشكل بديع ومذهل، في حين الشاعر العملاق نديم محمّد، يرسم خطوط مدوّنة ستعيد تشكيل ملامح بُنية الشعر العربي الحديث، دون أن ننسى ما كان يصل سوريا من أصوات ثائرة لشعراء أفذاذ مثل الشاعر سعيد عقل وسعدي يوسف ويوسف الخال ويوسف الصايغ وصلاح عبدالصبور وعبدالمعطي حجازي وعبدالله البدروني ومحمد الفيتوري وشعراء شبّان عباقرة ألمعيين من مصر والعراق واليمن ومنور صمادح والميداني بن صالح والقرمادي من تونس وغيرهم. في هذا الوقت المبكّر من مسيرة أدونيس وهو في أوجّ سنوات الشباب الأولى، كان قد بدأ يلفت له الانتباه بعد أن نشر في مجلّة الجيثار باللاذقيّة، قصيدته الرائعة المطوّلة (الفراغ). ولكن وبسبب انتمائه إلى الحزب القومي السوري المحظور، زجّ به في سجن القنيطرة، ليقضى به سنة، كانت ضروريّة ليعيد التأمل في كلّ قناعاته السياسية وليقوم بنقد لاذع للحزب القومي السوري، وبدأت تتوضح شيئًا فشيئًا، ليخفت فيه السياسي الجامح المتهور وليعلو في أعماقه ووجدانه صوت الشاعر المتأمّل الرصين العميق والباحث الألمعي الذي سيربك العالم وهو يحاوره ويجادله بقسوة وحضور بديهة وعمق نادر، متقدمًا وهو يشهر رايتين: منجز نقدي باذخ ومُنجز شعري مُجدّد مقوّض مُؤسس مُدينًا ومقترحًا في آن. وكان لا بدّ وأن يلتقي بيوسف الخال، وكان لا بدّ وأن ينتج عن لقاءهما مجلّة (شعر) التي مثّلت علامة فارقة حرّكت الساحة ورجّتها رجًّا، ودامت ست سنوات، لتتوقّف سنة 1963. ليصدر بعدها مجلّة (مواقف) إثر نكسة 1967، لكنه لم يتحمّس لها حماسته لمجلّة (شعر) ولم يكن الوقت يشجع على أية حماسة في الحقيقة، كان جميع شعراء الوطن العربي يمرون بفترة إحباط وقنوط ويأس. كانت هزيمة مصر أعمق من كلّ جرح يمكن تصوره. وكان السبيل الوحيد المتاح للمواساة، هو السكوت والحزن وابتلاع علقم المرارة. سنة 1973 كانت سنة أدونيس بامتياز، فقد عاد فيها بقوّة، من خلال عدّة نصوص شعرية وترجمات وهي السنة التي نال خلالها شهادة دكتوراه الدّولة عن بحث، نشره تحت عنوان (الثابت والمتحولّ)، وهو الكتاب الذي رجّ العالم العربي أيّامها رجًّا، وما زال إلى اليوم وسيبقى كإحدى أمهات المراجع والمباحث النقدية الجادة في مدوّنة الشعر العربي.. ومنذ ذلك الوقت، عاش سندبادًا محاضرًا ومرتحلاً بين جامعات ومراكز البحث في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا والنمسا وإسبانيا وهولندا والبرتغال وغيرها، وتلقى عددًا من الجوائز العربية والعالمية وعشرات من ألقاب التكريم، كما تُرجمت أعماله إلى ما يقارب العشرين لغة. حتى انتهى به الترحال إلى عاصمة النور باريس، حيث التجأ إليها مع عائلته، بسبب ظروف الحرب، ليستقر بها منذ قرابة الثلاثين سنة. خلال ربع قرن، التقيت بأدونيس مرّات عدة، في العديد من البلدان العربية والأوروبية، وكان آخر لقاء لي به بباريس. كنت على سفر، وأردت أن أراه لمدّة نصف ساعة، فإذا الوقت يسرقنا، وإذا بي أنسى موعد الباص الذي سيقلّني لمدينة ميونيخ حيث ابنتي وحيث عشت أكثر من ربع القرن. ساعات وساعات ونحن نضحك كالأطفال. ونتماسك حتى لا تخوننا دمعة، ونحن نتذاكر وضع سوريا والعراق وليبيا واليمن والعالم العربي المعطوب.. وحين تذكرت الوقت، عانقته مستحلفًا إياه ألا ينسى أبدًا أننا نحبه وأننا نراه في أوطانه وفي منفاه. وأنّنا سنراه ما بقى في صدورنا نفس يتردد... ذلك أنّه غيلان من الغيلان السبع. وذلك أنه حامل سنبلة هذا الوقت قبلنا بنصف قرن وذلك أنّ رأسه برج نار. وأننا نهتدي به كما العلامة بيننا حين تشتدّ ظلمات هذا الزّمن المريب... وقلت له شكرًا.. نعم... أكيد أنني لم أنسَ أن أقول له شكرًا... شكرًا، أنه صديقي الأقرب منذ ثلاثين سنة، بما يعدون... وأنه الأب الروحي الذي يشرفني أنه يتابعني بصمت واعتزاز، كما كنت وما زلت أتابعه، بنفس الاعتزاز وأكثر... شكرًا.