رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أن الأمر في أفغانستان يختلف، فالتاريخ يعيد نفسه، وكما شكل الغزو الأمريكي لها قبل عشرين عاماً نقطة تحول جيوسياسي وإستراتيجي في تاريخ البلاد والمنطقة المحيطة به، بل والعالم، فإن الانسحاب الأمريكي أخيرا شكل مرحلة مفصلية في مستقبل أفغانستان لأنها لم تعد تستطيع دفع كلفة البقاء وتركت هذا البلد فريسة لطالبان وهي تتفرج على المدن الكبرى تتساقط، لأن الرئيس بايدن يرى أن مخاطر البقاء تفوق كثيراً كلفة البقاء في «حروب لا تنتهي»، ويرى خبراء أمريكيون في خلفيات قرار بايدن، أن الانسحاب يضع الأفغان أنفسهم أمام تحدي تقرير مصيرهم بيدهم، فإما التوصل إلى حل لتقاسم السلطة أو تجدد الحرب الأهلية، وهم يعلمون جيدا أن ترك بكتيريا طالبان تتفشى لن تجلب الأمن والسلام؛ كون هناك مصالح للدول الإقليمية التي تسعى لتسوية أفغانية داخلية على مقاسها، فيما ترغب دول أخرى، لا يستأثر فيها طرف واحد بالغلبة والقرار. وإذا ما تجددت الحرب الأهلية على ضوء اقتراب طالبان من كابل، فعندها قد يسهل على التنظيمات الجهادية التسلل مرة أخرى إلى أفغانستان وعندها ستخلط الأوراق وستجد أفغانستان نفسها أمام التجربة العراقية بشكل أكثر عرقية وطائفية ودموية، واضعينهم في الصراع السياسي والاستقطاب الحاد الذي تلا الانسحاب الأمريكي عام 2011، وهو الذي كان سبباً أساسياً في صعود تنظيم «داعش» عام 2014. والأمر نفسه قد يتكرر في أفغانستان. ويعيش الصومال اليوم مثالاً حياً، على كيفية انتهاز حركة «الشباب» الموالية لتنظيم «القاعدة»، فرصة تجدد الصراع السياسي بين القوى الأفغانية ومرشحة في حال تجدد حروبها الأهلية، لأن تكون مرة أخرى منصة تنطلق منها الهجمات الجهادية في مناطق مختلفة من العالم، على غرار هجمات 11 (سبتمبر) 2001 في الولاياتالمتحدة. وهذا احتمال قائم يتجاوز منطق التكهن فقط. واستناداً إلى ذلك، يترقب العالم مآلات الوضع في أفغانستان كون السيناريوهات متعددة ويغلب على معظمها التشاؤم، إلا إذا قررت الدول الإقليمية، لا سيما باكستان، صاحبة النفوذ الأكبر على «طالبان»، بحسب ما يتم تداوله وهو الأمر الذي تنفيه إسلام آباد تماما، أن تلعب الباكستان دوراً في دفع الحركة إلى اتفاق مع حكومة كابول، يقي أفغانستان شر تجدد الصراع الأهلي وعودة الجماعات الإرهابية. فيما ترى الصحف الأمريكية أن قرار الانسحاب الأمريكي يبدو وكأنه أعتق واشنطن من مسؤولية ما سيحدث في أفغانستان مستقبلاً، رغم أن غزو عام 2001، ستبقى مفاعيله مستمرة سواء في الذاكرة أم في قابل الأيام. وسيذكر التاريخ حقيقة واحدة وهي أن الولاياتالمتحدة أخفقت بعد عشرين عاماً في مهمة «بناء أمة» أفغانستان. أما كيف ستكون أفغانستان في السنوات العشرين القادمة، فهذا السؤال الذي عجز عن إجابته الكثيرون. وتدرك طالبان أن واشنطن والغرب غسلوا أيديهم من أفغانستان، ولم يعد الرئيس بايدن يطيق سماع اسمها، وهذه إشارة خضراء كافية للحركة حتى تستغل الوضع النفسي الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي وتوسع رقعة سيطرتها. غير أن التطورات العسكرية السريعة في الشمال أثارت مخاوف لدى الصين وروسيا وإيران. وليست أفغانستان بحاجة في الحقيقة لحرب أهلية جديدة، فهي تعيشها منذ سنوات، لكن التوقعات هي أنها ستتفاقم أكثر في حال عدم الوصول إلى اتفاق على إقامة حكم جديد بين «طالبان» وحكومة كابول. وبحسب مصادر أفغانية فإن البنتاغون يفكر جديا بإجلاء الرئيس أشرف غني من مقر إقامته من قصره في كابول حفاظا على شرعيته في ظل توارد معلومات أن طالبان ستستفيد من وعورة التضاريس حول كابول، وقطع الموارد والإمدادات عن العاصمة والاستعداد لمعركة العاصمة عبر الهجمات الفردية والانتحارية التي يُمكن لمقاتلي الحركة شنها ما بعد مرحلة الحصار، حيث لن ينفع معها حتى تدخل الطائرات المؤيدة للحكومة.