تمثل مسيرة الدكتور محمد سليم العلويني الأستاذ المتميز بالهندسة الكهربائية والحاسوبية في قسم العلوم والهندسة الحاسوبية والكهربائية والحسابية في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) نموذجاً حقيقياً للباحث الذي يسير دوماً نحو اكتشاف فضاء أوسع مما تحقق في مجاله. فبعد رحلة بحثية طويلة توجت بالعديد من الجوائز من ضمنها جائزة التقدير لعام 2016 للجنة جمعية الاتصالات اللاسلكية التقنية التابعة لمعهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات (IEEE)، وجائزة عبدالحميد شومان للباحثين العرب لعام 2016 في العلوم الهندسية، وجائزة الإنجاز في العلوم الهندسية من منظمة التعاون الإسلامي في عام 2017 وجائزة الكويت في حقل العلوم التطبيقية في عام 2020، ها هو الآن يستثمر كل رصيده العلمي والبحثي في وضع متطلبات شبكة الجيل السادس للاتصالات. إضافة إلى ذلك يعمل الدكتور العلويني وفريق بحثه على تقديم حلول فعالة، بعد سلسلة أبحاث طويلة يمكن أن ترتكز عليها هذه الشبكة المتطورة للغاية، وستكون خطوة جبارة في مسيرة استثمار تقنيات الاتصالات والمعلومات. هنا سيحدثنا عن قصة انضمامه لكاوست، ورحلته البحثية، وأبرز ملامح شبكة الجيل السادس للاتصالات، وحقيقة تأثيراتها، وأهم التحديات العلمية البحثية التي تواجه فريقه في كاوست.. فإلى تفاصيل الحوار: • متى انضممت لكاوست؟ وما تقييمك لتجربة العمل فيها؟ •• انضممت لكاوست منذ 12 عاماً كعضو هيئة تدريس مؤسِّس، وبسبب تخصصي في مجال الاتصالات اللاسلكية، قمت بإنشاء مختبر نظرية الاتصالات في الجامعة. وكما تعلم، بدأت كاوست منذ افتتاحها عام 2009 بالعمل على محاور أبحاثها الإستراتيجية الأربعة المعروفة: الماء، والغذاء، والبيئة، والطاقة، ثم أضيفت التقنيات الرقمية رسمياً في الآونة الأخيرة. أثناء بدايتنا في مجال بحثنا -أقصد التقنيات الرقمية- قد كان يُنظر إليه على أنه ثانوي أو ليس بأهمية المحاور الإستراتيجية الأربعة الأولى، إلا أن الأبحاث الرقمية كانت في الأصل موجودة بشكل ضمني في كاوست منذ اليوم الأول كون التقنيات الرقمية وعلوم البيانات هي عوامل تمكين لا غنى عنها في جميع مجالات البحث العلمي على سبيل المثال: أولاً تطبيقات الزراعة الذكية التي يمكن أن تحسن عملية إنتاج الغذاء من حيث التكلفة والسلامة عبر رقمنة الزراعة وسلاسل القيمة الزراعية، وثانياً الرصد المباشر ثم التنبؤ بظاهرة تغيّر المناخ العالمي وهو كما تعلم يعتبر تحدياً كبيراً يتطلب اهتماماً بالغاً من المجتمع العلمي كونه يؤثر بشكل كبير على الحياة في كوكب الأرض. تطوير الاتصالات المتنقلة • باتت تقنية الجيل الخامس للاتصالات (5G) اليوم أمراً معروفاً وشائعاً عند كثير من الناس، لكن أبحاثك تتركز على تقنية الجيل السادس (6G)، ما هذه التقنية؟ وما الفوائد التي يمكن أن تقدمها؟•• جميعنا يشارك بشكل جماعي فيما يسمى ب «ثورة الاتصالات المحمولة» التي عشناها خلال العقود الأربعة الماضية. لذا كانت تقنية اتصالات الجيل الأول (1G) البداية التي مهدت الطريق نحو تطوير الاتصالات المتنقلة وأخرجت لنا أولى الهواتف المحمولة في ثمانينات القرن الماضي. وخلال التسعينيات، انتقلنا من الاتصالات التناظرية إلى الاتصالات الرقمية ذات الجودة الأفضل مع إمكانية تبادل الرسائل الصوتية والنصية وذلك من خلال تقنية الجيل الثاني (2G). ثم جاءت حقبة الجيل الثالث عبر تقنية (3G) في عام 2000 ومعها انتقلنا إلى الإنترنت وبدأنا في تصفح الإنترنت من هواتفنا المحمولة. ونحن الآن نتمتع بالسرعة العالية التي توفرها هواتفنا الذكية عبر تقنية الجيل الرابع (4G)، وهي سرعة من المتوقع أن تتطور إلى قيم أعلى وأن تتوسع في توصيل عدد أكبر من الأجهزة، وقد بدأنا نلمس ذلك في تقنية الجيل الخامس (5G) التي أطلقت في عام 2020. كما تلاحظ، يستغرق الأمر حوالى 10 سنوات للتصميم والتطوير والتحقق من صحة جيل واحد من أنظمة الاتصالات المحمولة، ويستغرق 10 سنوات إضافية أخرى لنشرها وتوسيع نطاقها حتى تنضج إلى أن يستغنى عنها تدريجياً في نهاية المطاف بعد تبني الجيل التالي؛ لذا يمكنك بسهولة تخمين أنه مع انطلاق خدمة الاتصالات بتقنية الجيل الخامس، بدأ باحثو الأوساط الأكاديمية والصناعية على الفور في العصف الذهني والتخطيط لما ستؤول إليه تقنية الجيل السادس (6G). وفي هذا السياق، ومن وجهة نظري، ستقدم تقنية (6G) تحسينات مهمة في شقين: الشق الأول: يتضمن سرعة توصيل فائقة للتطبيقات المستقبلية مع معدل استجابة عالٍ مثل: - ألعاب الواقع الافتراضي والواقع المعزز. - تقنية «الهولوغرام» الثلاثية الأبعاد للتواجد الافتراضي خلال الاجتماعات ومؤتمرات الفيديو. - السيارات ذاتية القيادة وسيارات الأجرة الطائرة. - العمليات الجراحية المنفذة عن بعد. من جهة أخرى، يهتم الشق الثاني بتوفير خدمات الاتصال بالإنترنت للأفراد الذين يتعذر عليهم ذلك في الوقت الحالي. في الحقيقة لا يزال نصف سكان العالم تقريباً (حوالى 4 مليارات شخص) دون اتصال بالإنترنت والتي باتت في غاية الأهمية اليوم. في الواقع، أظهرت جائحة فايروس كورونا (كوفيد-19) أن فجوة الاتصال يمكن أن تكون في بعض الأحيان مسألة حياة أو موت خصوصاً للذين لا يمكنهم الوصول إلى معلومات وخدمات الرعاية الصحية الأساسية. وهي بطريقة ما الوجه الحديث لعدم المساواة واختلال التوازنات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول والمجتمعات. وبالتالي، ومن وجهة نظرنا، يجب أن تتناول تقنية الجيل السادس أيضاً قضية «توصيل غير المتصلين»، وهو أمر يستدعي إجراء مزيدٍ من الجهود البحثية المكثفة لتضييق فجوة الاتصال هذه حتى نتمكن من إيصال الإنترنت إلى 4 مليارات فرد معزولين اقتصادياً واجتماعياً ومحرومين من هذه التجربة والفوائد التحويلية التي تأتي معها والتي يمكن أن تقدم خدمات صحية وتعليمية ومالية أفضل، فضلاً عن خلق وظائف وفرص استثمارية جديدة. • ما التحديات الرئيسية التي تمنع «توصيل غير المتصلين» حالياً؟•• تؤثر فجوة الاتصال هذه عادةً على المناطق الريفية والنائية لأسباب كثيرة تتجاوز الأسباب الاجتماعية الأساسية، مثل الأمية الرقمية والجهل بكيفية استخدام الحاسب الآلي، وافتقار المحتوى والخدمات المحلية ذات الصلة، يمكن حصرها في التالي: - ارتفاع أسعار الهواتف الذكية والاشتراكات في خدمات البيانات، التي تكون غير واضحة للناس البسطاء، فضلاً عن عدم اهتمام مشغلي شبكات الهاتف المحمول في الاستثمار في المناطق الريفية إذ لا توجد جدوى اقتصادية من مد آلاف الكيلومترات من الكابلات أو الألياف الضوئية لمناطق ذات كثافة سكانية منخفضة ومتوسطة الدخل. - صعوبة التضاريس مثل المناطق الجبلية الوعرة والجزر الصغيرة، التي يصعب فيها تركيب وصيانة البنية التحتية للاتصالات الأرضية. - مشاكل في شبكة الطاقة حيث يعتمد تقديم خدمات الاتصالات على وجود شبكة كهرباء موثوقة التي تفتقر لها العديد من البلدان النامية والمناطق النائية. وبالمناسبة، فإن فجوة الاتصال هذه لا تؤثر فقط على البلدان النامية أو المناطق الريفية والنائية في البلدان المتقدمة، بل يمكن أن تجدها أيضاً في قلب بعض المدن الرئيسية في جميع أنحاء العالم، أعني هنا الأحياء الشعبية الفقيرة وذات الدخل المحدود أو مخيمات اللاجئين المؤقتة، حيث لا يستطيع الناس في هذه المجتمعات تحمل تكلفة الاتصال حتى لو كان متاحاً. • هل لديكم أبحاث حول ابتكارات جديدة لتوفير الاتصال في المناطق الريفية والنائية؟•• بالتأكيد، يدور عملنا البحثي حول تطوير شبكات لاسلكية غير مكلفة على جميع المستويات من أجل معالجة فجوة الاتصال. على سبيل المثال، يمكننا تغطية العالم بشبكات اتصال عن طريق نشر منظومة متكاملة ثلاثية الأبعاد تشمل الاتصالات الأرضية والمحمولة جواً والأقمار الاصطناعية. وفي هذا السياق، ندرس تطوير تقنية اتصالات لاسلكية جديدة تهدف إلى دعم المستخدمين والأجهزة في البر والبحر والجو لا تعتمد على المحطات الأرضية فقط، بل أيضاً على الطائرات دون طيار (الدرونز)، والمنصات عالية الارتفاع، وشبكات الأقمار الاصطناعية الناشئة مثل شبكة ستارلينك (Space X-Starlink)، وأمازون (Amazon-Kuiper)، وتيليسات (Telesat-Lightspeed)، وون ويب (OneWeb). أود أيضاً أن أُعرّج حول أهمية مسألة الارتباط الوثيق بين حلول شبكات الاتصالات الجوية والفضائية الناشئة والتوجهات المستقبلية الجديدة في أنظمة النقل، فمنذ تطوير أنظمة النقل، ارتفع استخدام البشر لوسائل المواصلات الأرضية (السيارات، القطارات، مترو الأنفاق)، ووسائل المواصلات الجوية (الطائرات بشكل أساسي)، ومع تزايد العبء الناجم عن الانفجار السكاني والتوسع الحضري السريع في العقود الأخيرة في العالم، أصبحت أنظمة النقل العام وحركة الشحن تعاني ضغوطات هائلة، الأمر الذي دفع مهندسي وباحثي النقل لاستكشاف طرق حديثة لأغراض النقل، وأعني هنا، المركبات الطائرة ذاتية القيادة التي ستستخدم لنقل الأشخاص والبضائع، بهدف: - حل مشكلة الازدحام والاختناقات المرورية وتخفيف الضغط على شبكات النقل في المدن والمناطق الحضرية المكتظة بالسكان. - حل ما يسمى بمشكلة «توصيل الميل الأخير»، أي آخر مرحلة لتوصيل البضائع من منطقة الفرز إلى الوجهة النهائية، من خلال إتاحة الوصول إلى المناطق النائية والريفية بأقل تكلفة ممكنة. وهنا يأتي الدور الكبير الذي ستلعبه شبكات الاتصالات الجوية والفضائية، إذ ستساهم في إبقاء هذه المركبات الطائرة على اتصال دائم لأغراض التحكم والقيادة الذاتية وتوفير خدمة إنترنت عالية السرعة للركاب. توفير الحلول الذكية • لماذا اخترت البحث في مجال الاتصالات؟ وما مشاريعك البحثية في السنوات الخمس المقبلة؟•• منذ فترة دراستي الأولى طالباً جامعياً في باريس، كنت شغوفاً جداً بجميع أنظمة وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، والتي شبهها العالم كلود شانون (والد نظرية المعلومات) بفن «نقل سلسلة من الأصفار والآحاد من نقطة إلى أخرى»، وهو شيء يختلف عن أنظمة النقل التي تنقل الناس والبضائع، هنا يمكنك فقط مراقبة الإلكترون أو الفوتونات التي تحمل المعلومات في الوقت الفعلي وغالباً عبر مسافات كبيرة. وما زلت منبهراً بمدى التقدم الهائل الذي تم إحرازه في هذا المجال منذ تجربة الإبراق اللاسلكي عبر المحيط الأطلسي للعالم الإيطالي غوليلمو ماركوني قبل 120 عاماً. بالنسبة لمشاريعي البحثية المستقبلية فستتمحور حول شبكات ما بعد الجيل الخامس والسادس اللاسلكية، خصوصاً في مجال «توصيل غير المتصلين» وجعل صانعي القرار يدركون أن إيصال خدمات الإنترنت لجميع الناس لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه عبء بل فرصة إنسانية عظيمة. علاوة على ذلك، ستكون أيضاً فرصة مهمة من منظور الأعمال التجارية بمجرد أن تصبح التقنية متاحة ويزداد اعتمادها في مختلف جوانب الحياة إضافة إلى زيادة وعي وإلمام المستخدم بها. وهذا يتماشى مع «نظرية قاعدة الهرم» الاقتصادية التي تستند لفكرة أن حوالى 4 إلى 4.5 مليار شخص في العالم لديهم دخل سنوي أقل من 1500 دولار أمريكي، ويعيشون في الغالب في مناطق ريفية ونائية وضمن مجتمعات فقيرة ومنخفضة الدخل، وحجم هذا السوق سيسمح بجني أرباح كبيرة حتى لو كان متوسط الربح عن كل فرد منخفضاً، وذلك بسبب عدد المستخدمين الكبير في هذه الشريحة. وهذا يحفز الاستثمار في سوق تقنية المعلومات والاتصالات، الذي من المتوقع أن يصل حجمه إلى أكثر من 6 تريليونات دولار بحلول عام 2022. إضافة إلى ذلك، سيمكن تطوير تقنيات الاتصال اللاسلكية والمتنقلة من تثبيت أنواع مختلفة من أجهزة الاستشعار في مجموعة متنوعة من المناطق النائية وستنعكس فوائد ذلك على: - توفير حلول ذكية للاستكشاف والرصد البحري أو البري. - تقديم حلول أفضل لإنتاج الغذاء وإدارة سلاسل الإمداد للقطاع الزراعي. - تحسين استكشاف الموارد الطبيعية. تطبيقات الجيل السادس للاتصالات في الزراعة الذكية تحسن إنتاج الغذاء الجيل السادس للاتصالات يقدم حلولاً للعديد من المشكلات الحرجة فجوة الاتصال لا تقتصر على البلدان النامية بل تعاني منها بعض المدن الرئيسية (6G) تساهم في التنبؤ بظاهرة تغيّر المناخ العالمي سوق تقنية المعلومات يصل إلى أكثر من 6 تريليونات دولار عام 2022 السيارات ذاتية القيادة والعمليات عن بُعد تستفيد من الجيل السادس للاتصالات