شهدت السعودية خلال الأسابيع الماضية تحركات سياسية مهمة للغاية، لم تكن تلك الزيارات والاتصالات ترميماً للعلاقات مع الرياض كما قد يراها البعض، بقدر ما كانت التحاقاً بالرؤية السياسية السعودية التي بدأت منذ عدة أعوام وواجهت خلالها موجات من التخوين والترهيب والتشكيك في مواقفها انخرطت فيها دول وأحزاب ومؤسسات إعلامية -عربية وغربية- عبأت الشارع ضد السعودية ومواقفها واختلقت الأكاذيب والقصص وأعادت تدويرها من نيويورك مرورا ببرلين وليس انتهاء ببيروت وغزة وصنعاء وطهران، حرضوا ضد السعودية في كل خياراتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ليتأكد الجميع لاحقا.. كم كانت الرياض محقة، وبعيدة النظر، وأكثرهم حكمة، وأشدهم صبراً على الأذى. كانت الرسائل السعودية الإيجابية التي تدفقت مؤخراً تجاه الكثير من القضايا -التي تتقاطع معها- إعلاناً منها بفتح أبوابها للشراكة مع من يمد يده لبناء شرق أوسط جديد، يغادر فيه مربع زلزال «الخريف العربي»، الذي تحول إلى أكبر أزمة إنسانية وسياسية وأمنية تواجه الإقليم منذ عام 1910، عندما بدأ الشرق الأوسط يرسم معالمه بانحسار السلطنة العثمانية إثر حربها الخاسرة مع السكان المحليين والقوى العظمى، وتخلق أقوى دولة في الإقليم -المملكة العربية السعودية- على يد المؤسس الملك عبدالعزير آل سعود. كل ما نشهده اليوم من تدافع على أبواب المصمك، يؤكد مرة أخرى أن الرياض التي جاهدت لإعادة تخليق السياسة الشرق أوسطية على المقاس السعودي، متخلصة من تأثيرات أحزب اليسار وقيمهم المنفلتة، أو أطماع دول التخوم ومحاولتها إيجاد موطئ قدم في عالمها العربي، ستقود قاطرة الإقليم نحو المئة عام القادمة، وهي تفتح أبوابها لمن يؤمن بقيم السلام والتعاون وينبذ التطرف والإرهاب والتدخل في الشؤون الداخلية للغير. اليوم تتولد قناعة عند الكثير من المراقبين أن السعوديين تجاوزوا حجم الإقليم، وأصبح ثوب الإقليم أصغر من مقاس الاقتصاد السعودي الطموح، ورؤيتهم الخلاقة، وبنيتهم الرقمية، وتحولهم الاجتماعي، وتفوقهم السياسي، وأصبحوا لاعبين مؤثرين وأساسيين في العالم الجديد. عالم حاول صانعوه اقتلاع السعودية من جذورها، وخنقها وتفجيرها من الداخل، لكن «طائر العنقاء السعودي»، لطالما أثبت قدرته على العودة من بين الصعاب وركام الحروب السياسية والاقتصادية التي تشن عليه، محلقا من جديد. لقد فهمت الرياض جيداً أن العالم لا تحركه إلا لغة الأرقام، وأن المصالح الاقتصادية تقود العالم إما إلى الصدام أو إلى التصالح والتعاون والتشارك مع بعضه البعض للنجاة من كارثة اقتصادية لا مفر منها، ولذلك أعادت بناء اقتصادها وهي في الطريق لتحويله من اقتصاد «ريعي» يعتمد على سلعة واحدة في طريقها للزوال، إلى اقتصاد متنوع، ثري، وحشدت له كل أدوات النجاح والتفوق والمشاريع الخلاقة. ولعل اقتصاد ما بعد كورونا يؤكد ذلك، فأوروبا القارة العجوز، لم تفق بعد من «سكرتها الاقتصادية» وتفوقها الحضاري، بينما دول مثل الصين والهند ومصر والسعودية، ستتجاوزها خلال السنوات العشر القادمة، لتبقى أوروبا تعيش على ذكريات الماضي. البنية التكنولوجية المتقدمة التي ساعدت دولة مثل المملكة على تفريغ جائحة «كورونا» من أضرارها الاقتصادية والصحية، وتحجيمها لدرجة متدنية جداً، أعطت مثالاً واضحاً من سيكون في الصفوف الأولى بعد عقد من اليوم. السعوديون منذ اليوم الأول لكارثة الربيع العربي، قالوا بوضوح: إن هذه الحركة الاحتجاجية تستهدف هدم المجتمعات القائمة وتحويلها لدول فاشلة، ولا تفهم بنيويتها الاجتماعية وثقافتها السياسية، وهي موجة رومانسية ستسقط الجميع بلا استثناء، دون أن تحقق نتيجة سوى رغبات منظري اليسار وطلاب السلطة من مؤسسات الإسلام السياسي -الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش. لقد صدقت الرياض في ما تنبأت به واستعدت له وسقطت سوريا وليبيا واليمن وتونس وتحولت لدول فاشلة، وكادت تسقط مصر لولا وقفة شعبها والشرفاء معها. لم تكن الرياض يوما تغلق أبوابها ضد أحد، صحيح كانت شرسة في الدفاع عن نفسها وشعبها ومصالحها وإقليمها العربي ومصالح أمتها الإسلامية، لكنه لم يكن اعتداء ولا تعديا ولا تدخلا في شأن أحد، اليوم يقف على أبواب المصمك طابور طويل من الساسة والدبلوماسيين والوسطاء والاقتصاديين ينتظرون دورهم للدخول على مجلس السياسة والدهاء السعودي.