عباقرة مبدعون فاق إبداعهم الواقع، يسبحون في عالم مختلف أكبر منهم تجاوز حدود اللا معقول. صمتهم تفكير، وتحركاتهم خطوات وتأمل رغم أنها تزعج الآخرين.. خطوات تنتظر من يسندها لتسير في الطريق الصحيح. كثير من الأسر حملت على عاتقها السير في طريق مجهول لا تعلم أين ومتى ستحصل على نتائج تسعدها، ولهذه الغاية هجروا الأهل وسافروا من الوطن وفضلوا الغربة من أجل أبنائهم. وبين سندان اضطراب التوحد ومطرقة الغربة يتحدث المهندس حمد علي العوضي من بريطانيا عن تجربته: تقررت رحلة طلب العلاج إلى بريطانيا لطفلين مصابين بالتوحد، بعد تردد طويل بين أطباء الأعصاب وعيادات الأطفال ومراكز التأهيل قررت السفر إلى الخارج لاستكمال التأهيل والعلاج، إلا أن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود، بل محفوفاً بالمخاطر والإشكالات، فتحديات مصابي التوحد وأسرهم تبدأ لحظة خروجهم من باب المنزل إلى المطار، مروراً بمقاعد الطائرات وطوابير الفحص والتفتيش في الرحلات الداخلية والخارجية، فخلال التنقلات وفي صالات المطار تقابلهم تحديات يجب تجاوزها، فهذه المرافق أو قل أغلبها لا توفر معينات لأصحاب الإعاقات الذهنية أو الإعاقات الخفية، كثير من الخيارات غير متاحة ما يستدعي صبر الوالدين وتأقلمهما مع الحالة حتى الوصول بسلام إلى البلد المنشود. يواصل العوضي رحلة المعاناة والمشاق ويضيف: بعد تخطي عناء السفر، تتوالى التحديات من السكن والتشخيص والبحث عن الخدمات والعلاج، فيبدو أن ملف الأوراق الذي جلبه لا يفيد، هنا يحتاج الأطفال إلى إعادة تقييم وتشخيص من فريق متخصص في التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية ليتم بعدها طلب المدرسة المناسبة ثم تبدأ معها الخدمة الاجتماعية ومواعيد العيادات. عن الفئة الغالية.. قصص لم تروَ بعد عن الخدمات التي توفرها تلك الجهات يشرح العوضي أنها تحتوي خدمات النقل للمدرسة بوسيلة آمنة وصحية مع مرافق كانت نقطة مهمة للاطمئنان على تنقلات الأطفال يومياً مع تواصل مستمر من المدرسة مع المستشفى ووجود ممرضة تتواصل مع المختصين وتتابع الجانب الصحي للأطفال من المدرسة كجانب تكاملي فاعل في رحلة التأهيل، فضلاً عن تصميم المدرسة وتقسيمها بشكل يلائم أطفال الاحتياجات الخاصة باختلاف قدراتهم وتحدياتهم لتشمل الأماكن المفتوحة، فمن المهم تقديم الدعم للأطفال بنفس مستوى خدمات الأسرة، خصوصاً أن الطفل في حاجة إلى رعاية ومساعدة. ويرى العوضي أن الربط بين الخدمة الاجتماعية والصحية والمدرسية والتواصل عن طريق البريد أضاف خاصية مهمة للتواصل بشكل مريح للعائلة ما انعكس على توفير بيئة مناسبة لأطفال التوحد، إضافة إلى أن الأندية التطوعية تقدم خدمات ومعلومات لأسر التوحد مع توفر وقت في بعض الأيام في المتاجر أو أماكن اللعب مخصصة لأطفال التوحد، مما لا شك فيه أن الوعي المجتمعي ومعرفة المختصين حول التوحد ساهم بشكل كبير في توفير دعم للمحيطين بأطفال التوحد وخلق بيئة مناسبة لتلمس احتياجاتهم وإيصال الخدمات للطفل بشكل كبير. في الواقع فإن هناك وعياً مجتمعياً كبيراً حول التوحد، كما يقول العوضي، والوعي نابع من النظام التعليمي الذي يغرس في الأجيال مثل هذه المعرفة ولا نغفل الجانب الإعلامي، إذ توجد قنوات مخصصة للأطفال ومن ضمنهم أطفال الاحتياجات الخاصة على اختلافهم، ومن واجباتنا الاجتماعية نشر الوعي ومشاركة التجارب لإيصال صوت هذه الفئة الغالية. الرحلة قد قاربت على النهاية وللتوحد قصص لم تروَ بعد إلا أن العودة إلى الوطن هي المحطة القادمة، والوطن هو حلم كل المغتربين لنبدأ معها تحديات جديده بطموحات وأحلام كبيرة.. أخيراً ليس كل شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة هو فقط من يجلس على الكرسي المتحرك، بل هناك آخرون يحملون إعاقات خفية ذهنية ونفسية قد تكون في بعض الأحوال أشد وأقسى من غيرهم مثل طيف اضطراب التوحد وغيرهم. اضطراب غامض حيّر الجميع عن اضطراب طيف التوحد يتحدث علي جميل النعماني من سلطنة عمان: الأمر يحتاج منا التعمق والتركيز الدقيق؛ لأن هذا الاضطراب غامض وحيّر الجميع من مختصين وباحثين وأسر، ولم يتسنَ لأحد أن يحدد بدقة سببه وسبب أغلب السمات التي تعتري المصابين به، فالحديث عن التوحد ذو شجون ضارب في عمق المشاعر، ونحدد هنا مشاعر الأسر التي ترعى طفلاً مصاباً بالتوحد بشكل خاص، هذه الأسر تجد صعوبات متنوعة، ومن الواجب عند الحديث عن التوحد والتوعية به ذكر التفاصيل التي ربما لا يشعر بها إلا من عاش هذه الحالة وتعامل معها، ربما يكون التعامل صعباً في بعض الأحيان بحسب حالة الطفل، فهناك مستويات ثلاثة حددها الدليل التشخيصي الإحصائي الخامس المنشور في العام 2013م بين «الشديد والمتوسط والخفيف» بحسب نوع ومستوى التدخل المطلوب مع الطفل، ومن الواجب أن يكون الجميع عوناً وسنداً لهذه الأسر من خلال معرفتهم واطلاعهم على جوانب الاضطراب وفهم تصرفات الطفل في الأماكن العامة، ويدعو النعماني الأسر أن تعمل جاهدة على الاستزادة من فيض المعرفة الواسعة لهذا الاضطراب، وما نراه على الساحة من بشائر خير توحي بأن هذه الأسر تحاول جاهدة في التبحر في هذا المجال؛ ومنهم من أصبح في مجال التدريب يفيدون الأسر الأخرى بخبراتهم واطلاعهم ونقل كل ما من شأنه تسهيل التعامل مع الطفل، ولو تحدثنا عن الأمور التي تنقص أسر التوحد فلا بد أن نقول إن أساسيات التدريب والتأهيل المناسبين والتدخل المبكر الجيد عند اكتشاف الحالة علاوة على التوسع في برنامج الدمج التعليمي في المدارس الحكومية والخاصة هي من الأمور المهمة، مع دعم تلك الأسر وإتاحة هذا كله بالمجان لهم، وهي حتماً أبسط حقوق الأطفال التي أقرتها المواثيق والاتفاقيات الدولية. طفلك توحدي.. كيف تعرفه ؟ وجه علي النعماني رسالة إلى الوسائط الإعلامية المختلفة مناشداً عدم تسمية التوحد بالمرض والحقيقة أنه اضطراب نمائي عصبي تطوري يظهر على الأطفال في السنوات الثلاث الأولى من أعمارهم، وهناك ثلاث سمات رئيسية يمكن بها الاستدلال على إمكانية وجود التوحد مع الطفل، وهي ضعف أو انعدام التفاعل الاجتماعي بينه والآخرين، وقلة التواصل بكافة أشكاله، ووجود حركات نمطية معنية كرفرفة اليد أو المشي على الأصابع وغيرها. والحكم الأول والأخير هنا لتطبيق المقاييس التشخصية من قبل فريق معتمد في التشخيص، كما أن أطفال التوحد يظهر عليهم عدم الاكتراث والمبالاة بما يحدث حولهم، وقد يظن كل من يتعامل معهم لأول مرة أنه لا يدرك ولا يشعر ولكن في حقيقة الأمر أن أغلبهم لديهم هذا الشعور ولكن بدرجات متفاوتة.، «نامل أن يحظى هؤلاء الأطفال بقدر عالٍ من الاهتمام على الأصعدة كافة، وأن هذا الاهتمام سيعود بالنفع على الدول وعلى الجميع بالخير لأنهم مبدعون ولكن صامتون» مجتابهة الطيف خجولة عدّ الاستشاري النفسي الدكتور محمد الشاووش «التوحد» طيفاً لا مرضاً، وأوضح ل «عكاظ» أن الطيف يضيق ويتسع وتمتد مؤشرات آثاره من الخفيف إلى الحِدة الشديدة، وأكد أن شريحة الإصابات تتزايد بشكل ملحوظ، كون الأزمنة الماضية كانت تفتقر للمعرفة بالطيف التوحدي وعدم التشخيص المناسب، مشيراً إلى أن التقدم العلمي والخدمات المتزامنة مع التطور ووفرة الإمكانات أسهمت في سهولة رصده بإجراء اختبارات آنية وفحوصات أولية تساعد في اكتشاف الإصابات بسهولة وفي زمن قياسي. وأكد الشاووش أنه لا يمكن حصر مسببات التوحد كونها غير محددة ولا منضبطة الحدود والمعالم، إلا أن عوامل عدة تسهم بتفاقم الحالة، وتلعب دوراً في الإصابة منها التغيرات البيئية والبيولوجية والغذاء والمنكهات والملونات والحروب غير التقليدية والنفايات النووية والأسلحة والأدخنة والعوادم والموجات الكهرومغناطيسية، ما يمكن أن يؤثر على الأم الحامل والجنين قبل الولادة، كما يلحق الأثر بدماغ المولود ويحدث اضطراباً يُخل بفطرة التمييز بين أفراد المحيط الاجتماعي، ويعسّر التعامل معهم على المستوى الاجتماعي ما ينعكس بآثاره المقلقة على الأسرة والوالدين تحديداً. ويرى الاستشاري النفسي الشاووش أن خدمات المواجهة لهذا الطيف خجولة وإن دشنت وزارة الصحة مراكز في 13 منطقة إدارية إلا أنه تنقصها الكوادر البشرية من المتخصصين في الاضطرابات والفنيين والمعالجين للتخاطب والمؤهِلِي ن لأطفال التوحد، ويتطلع لتأسيس جمعيات تعنى بهذه الشريحة. داعياً لوضع آليات ترابط بين الجهات المعنية بالتعامل مع التوحديين بدءاً من المراكز الصحية ومروراً بالتعليم ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وليس انتهاءً بالأسرة كون الجميع مسؤولاً وعمله متصل بعمل غيره من الشركاء، ولفت إلى أن التوحد يبدأ مع الأطفال في السنة الأولى، ثم يتعرضون لفترة الارتداد بين الشهرين الثامن عشر والرابع والعشرين التي تظهر فيها عليهم أعراض التوحد. لا يوجد علاج شافٍ.. بل تأهيل مبكر كشف الاستشاري النفسي الدكتور سلطان مشرف أن المجتمع بلغ مستوى من الوعي يؤهله لاستيعاب المشكلات والإسهام في حلها، وعزا الفضل الأكبر لسرعة وصول الرسالة والمحتوى إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكداً أننا لم نصل إلى الآن لمعرفة تامة بالتوحد، على مستوى الطب والمجتمع وعلى مستوى المتخصصين، ولفت إلى تأسيس الدولة مراكز في أغلب مناطق المملكة بمسمى مراكز نمو للاضطرابات النمائية، مشيراً إلى أنه لا يوجد علاج شافٍ لاضطراب طيف التوحد، إلا أن التأهيل المكثف والمبكر يسهم في إحداث فارق كبير في حياة العديد من الأطفال المصابين.