لم تعد الفلسفة اليوم تقوم من أجل بناء الأنساق المفسرة للعالم والوجود وغير ذلك، ويمكنُ أن نعدّ فريدريك هيغل هو آخر فيلسوف بهذا المعنى، ولا يهمني هنا الإشارة إلى أحفاده الذين يتابعونه اليوم أو هؤلاء الذين يحاولون بعث الروح في فلسفته بشكل مرح أو ناقد أو حتى تشييد نسق آخر على أنقاض نسقه. هؤلاء الذين عرفت فلسفتهم باليسار الهيغلي في مقابل اليمين الهيغلي، لأن ما يهمّ الفلسفة اليوم هو «اليومي» نفسه؛ فالعالم تفسره الفيزياء والرياضيات وعلوم الكون، والطبيعة نتحقق منها من خلال قوانين مضبوطة تهتم بها العلوم الطبيعية، والإنسان تهتم به علوم تخصصت في خفاياه اللاشعورية والشعورية عبر دراسة سلوكاته ومحاولة فهمها.. وكثير من العلوم (استقلت) عن الفلسفة بعدما كانت تحت جناحيها، لذلك من الصعب اليوم القول بأن الفيلسوف كائن موسوعي، يعرف كل شيء، وعنده الأجوبة لكل شيء، فلم يكن ميشال فوكو إلاّ فيلسوفاً بطريقة مختلفة، فيلسوفاً يحترف التاريخ، فيلسوفاً يحفر في طبقات النفس المجنونة، فيلسوفاً قادماً من العيادات والأرشيفات والأكوام المنسية في الذاكرة، كما لم يكن ديريدا إلاّ فيلسوفاً يعرف تفكيك اللغة، وفيلسوفاً يفهم الأدب أكثر من الأدباء أنفسهم، وفيلسوفاً يضج بأسماء مزقت العقلانية الفلسفية من الداخل مثل فرويد، ماركس، ونيتشه وغيرهم. كما لم يكن جيل دولوز إلاّ فيلسوفاً يفهم السينما، والشعر، والفراشات، والحيوانات، والرواية.. إنهم فلاسفة يغرقون في اللافلسفة. أما اليوم فقد أصبح الفيلسوف يقدم أهله يحمل بين دفاتره أسئلة الأنترنيت والسوق والصحة والموت والاستهلاك وكرة القدم والسياحة والموسيقى الصاخبة والحب.. إنه بطريقة ما يحمل اليومي بين جنبيه، هذا الذي لا يستطيع أحد أن يفكر فيه بطريقة عميقة. سيقول قائل إن العمق يأتي من تاريخ النظر في المفاهيم وإبداعها من جديد، والحال أنّ هذا تصور كلاسيكي للفلسفة، أما اليوم فعلى الفلسفة أن تغادر أريكتها الباردة، وتنتقل إلى الأسواق وفي أحسن الظروف عليها أن تنتقل إلى مختبرات الأبحاث العلمية، وتشارك اليومي مع العلماء في أبحاثهم الجارية؛ فمفهوم العقل والذاكرة والشخص والغير وقضايا الوجود والقيم مثل السعادة والألم والضياع كلها مفاهيم يمكنُ فهمها مثلاً في مختبرات الطب العصبي وعلم الأعصاب وعلم النفس العصبي، وهذا ما تدافع عنه الفلسفات ما بعد الحداثية، مثلاً الأعمال المائزة التي تقوم بها الفيلسوف الكندية باتريسيا تشريشلاند، ويمكن مراجعة كتابها العمدة في هذا الباب وهو «الوعي». إن مصطلحات مثل الكيمياء العصبية Neurochemistry والسبل العصبية nerve tracts والدماغ Brain ومصطلحات أخرى قد تبدو للبعض غريبة عن مجال الفلسفة، خاصة إذا عددنا هذا المجال المعرفي الفلسفي مجالاً للمنطقيات الصورية. والحال أننا اليوم نشهدُ تخصصاً معرفياً يكادُ يكون جنينياً إن لم نقل جديداً في بابه؛ فأمام ما تعرفه العلوم التجريبية من ثورة على مستوى دراساتها للإنسان والكائنات الحية بصفة عامة، قد يبدو علم الأعصاب neuroscience من العلوم المستقلة عن الفلسفة، هذا إن فكرنا في هذه العلاقة من منطلق تصوراتنا الكلاسيكية، والحال أنه قد بات لنا اليوم التعرف إلى علم فلسفي جديد سمي بالفلسفة العصبية Neurophilosophy بعدها علماً فلسفياً ينتمي إلى مجال فلسفة الذهن. غير أن السؤال الذي يواجهنا في هذا المسير يمكنُ أن نطرحه على الشكل الآتي: هل يمكنُ للفلسفة العصبية أن تساعدنا في فهم أنفسنا أكثر، حياتنا اليومية، خطابتنا المتبادلة، أدمغتنا أو(عقولنا)، وبالتالي تفتح أمامنا أفقاً للبحث عن أجوبة لإشكالات مختلفة وشائكة تقارب قضايا أفعال الذات وطبيعة الهوية والنحن مثلاً؟.. من هنا يبدو مستقبل الفلسفة منفصلاً عن تاريخها، أو خارج تاريخ الحقيقة، فعلى هذا يصحّ التفلسف.. وأكثر.