كانت مشروع شاعرة مهمة، ثم تحولت إلى روائية تشبه شراعاً يمخر أمواج الخليج للدخول في بحر العرب، لها تجربتها الخاصة التي جعلتها قيادية بعيداً عن المؤسسة الرسمية، تشتغل على مشروعها الثقافي المهم بهدوء تام، أسست «تكوين» لتكون مصدراً لمنشورات مغايرة، وورشٍ إبداعية، لتتضاعف حساسية الكاتب بالأدوات ويدرك كيفية تلقي نصوص الآخرين.. وفضلاً عن ذلك توالت إصداراتها الروائية آخذةً خطاً تصاعدياً. لا تنشغل الروائية الكويتية بثينة العيسى في «الهذر الثقافي» ولا الهجمات الغيورة المضادة وغير المباشرة من هذا وتلك، بل تركز على تنفيذ ما تخطط له في اتجاهات عدة. بثينة العيسى أكدت ل«عكاظ» أن ثمة جانباً عضوياً يتخلّق ذاتياً في كل كتابةٍ حقيقية. ولكن هناك أيضاً لحظات الشك والمساءلة، تفحّص الأدوات، واتخاذ القرارات المتواصلة عبر الانتخاب والإقصاء، وجملة من العمليات الذهنية المعقدة التي يتخذها الكاتب باحثاً عن أكبر قدرٍ من «الاتساق» بين أدواته. وعن أثر التعديل الذي أجري على قانون المطبوعات في الكويت تقول: «لقد تضاعفت حرية الكتب في التدفق إلى خارج البلاد، ولن تكون هناك آلاف العناوين المحجوزة في معرض الكتاب القادم، لأن وزارة الإعلام لم تعد هي الخصم والحكم». • ارتبط اسمك بمفهوم الكتابة الإبداعية، يتضح ذلك عبر منصة تكوين التي كانت إحدى ركائز انطلاقتك في هذا الحقل، إلى أي درجة ترين تأثير انتشار تقنيات الكتابة الإبداعية على النتاج السردي في المنطقة؟ •• لا أدري إلى أي حدٍ أثّر اشتغالنا في حقل الكتابة الإبداعية على النتاج السردي، أو الشعري حتى، في المنطقة. لا أملك أدوات لقياس مخرجاتٍ من هذا النوع، كما أن جميع الورش التي قدّمت في «تكوين» تمحورت حول «عملية الكتابة» بسبب قصر مدتها، الأمر الذي يخضع لاعتبارات لوجستية ومادية لا يمكن إغفالها. أي أنها لم تمتدّ لوقتٍ كافٍ للانتهاء بمخرجات؛ روائية أو قصصية أو أياً كان. كانت الخطة هي تدشين محترف للرواية في 2020، ثم تدخلت الجائحة وأوقفت كلّ شيء. لكن وهو انطباع شخصي محض، وقراءة لحوارات تدورُ بين أصدقاء يتداولون سؤال الأدوات أرى أن هناك حساسية مضاعفة إزاء العناصر الفنية، مع وجود الذائقة كعنصر متعالٍ لا يخضع لكل هذه الشروط. لكن مرة أخرى؛ هذا انطباعي الشخصي، في دائرتي الصغيرة، ولا أزعمُ بأنه ظاهرة. • وهل تجعل الورش الكتابية مقدِّمها أكثر وعياً بالأدوات وبعملية بناء النصوص؟ وهل تؤثر في تعامله مع قراءاته؟ •• هذا بالضبط هو الهدف من ورش الكتابة الإبداعية؛ أن تضاعف حساسيتنا بالأدوات. أن تعرف القاعدة بشكل جيد لتكسرها بشكل ممتاز، كما صاغها قاسم حداد. وبحسب تجربتي نعم، إن ورش الكتابة الإبداعية لا تؤثر فقط على نظرتنا إلى نصوصنا قيد التكوين، بل تؤثر على كيفية تلقي نصوص الآخرين. • في كلمة مصوّرة شدّدتِ على أهمية الكتب العربية التراثية، لكن في مشروع تكوين تنحازين إلى تيار الحداثة وترجمة الأدب الغربي، أين نجدك هنا؟ •• هي ليست حكاية انحياز، فكتب التراث، لأنها كتب تراث، متحققة ومكتملة غير قابلة للزيادة وملء الأرفف بغزارة وسرعة ما ينتجه الأدب المعاصر. نسعى في تكوين إلى توفير تلك الكتب باستمرار؛ حي بن يقظان وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والبخلاء وغيرها. لكن من الطبيعي أن تكون نسبة الكتب الحديثة أكبر مقارنة بالكتب التراثية. أما بالنسبة لي كشخص، فأنا أحبّ كل هذه العوالم، وأقرأها بشكل غير منهجي، ومن الطبيعي أن ولعي بالتوسّع في حقل الكتابة الإبداعية سيقودني للاطلاع على الجديد أكثر. • الكتابة تخضع لمرحلتين، بين السذاجة باستخدام الأدوات، والحساسية كما يقول «أورهان باموق». برأيك، متى ينتقل نصّ الكاتب من مرحلة السذاجة إلى الحساسية؟ وهل الحساسية المفرطة في استخدام الأدوات يمكن أن تُفسد النصّ؟ •• بحسب باموق: «أن تكون روائياً هو الإبداع في أن تكون ساذجاً وحساساً في الوقت نفسه»، وأنا أتفق معه. ثمة جانب عضوي يتخلّق ذاتياً في كل كتابةٍ حقيقيةٍ. ولكن هناك أيضاً لحظات الشك والمساءلة، تفحّص الأدوات، واتخاذ القرارات المتواصلة عبر الانتخاب والإقصاء، وجملة من العمليات الذهنية المعقدة التي يتخذها الكاتب باحثاً عن أكبر قدرٍ من «الاتساق» بين أدواته. وعليه فأنا أفهم التمييز الذي يقيمه باموق بين الروائي «الساذج» و«الحسّاس» في إطارٍ زمني. في لحظة تخلّق النص الأولى؛ كلُّنا سذّج. لكن في الكتابة اللاحقة، أو الكتابات اللاحقة إن شئنا الدقة لأن الكتابة «الروائية على الأقل» تتألف من طبقات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة «التحرير».. نحن نحتاج أن نكون حساسين إزاء الفنيات. الحساسية الشديدة يمكن أن تؤدي إلى الشلل في مراحل الكتابة الأولى؛ لذا نحتاج أن نعطل فينا ذلك العقل النقدي أحياناً، وأن نترك للكتابة أن تحدث وحسب. • أتعتقدين بأن الروائي مهما سافر إلى عوالم فسيحة ومتعددة في رواياته، فإنه في النهاية حتماً سيعود للبيئة الأم ويتناول في أعماله قضايا وهموم محلية؟ •• ليس عندي أفكار مطلقة وحاسمة بشأن الأدب. لا معنى لوضع قاعدة قد تجد لها مئات الاستثناءات. إن التنظير بشأن ما هو حتمي يخيفني. • في أعمالكِ الأولى، كنتِ تكتبين بصوت المرأة، وبعوالم لا تجهلينها. لكنّك لاحقاً طرقتِ مناطق مختلفة، وبأصواتٍ لا تشبه أعمالك السابقة. ما الذي أضافه هذا الانتقال لكِ؟ وهل الكتابة «عمّا لا نعرف» تشكّل تحدياً للكاتب؟ •• لقد كتبتُ في البدء عمّا أعرف، وأعتقد بأن من الحكمة سلوك هذا الطريق في البدايات، فأن تكون مسيطراً على موضوعك يجعلك متفرغاً لسؤال الكيفية. لكنني بعد فترة شعرتُ بالفضول؛ كيف سيكون شكل الكتابة عما لا أعرفه؟ عندما عثرتُ على فكرة «خرائط التيه» شعرتُ بأنني عثرت على كنز. كانت تلك فرصتي لتجربة كتابة مغايرة، لأنها وعلى مستويات عدة، تدورُ في المجهول بالنسبة إلي، في الجغرافيا والثيمات واللغات واللهجات والثقافات والشخوص التي لا تمت لي بصلة. انعكسَ الأمر بشكل جليّ على الأدوات، وهو الأمر الطبيعي، لأن الأدوات في جوهرها استجابة لحاجة النص، إنها مجرد تمظهر. لكن المتعة التي وجدتها في كتابة كهذه جعلتني غير راغبة بالعودة إلى الشكل القديم. فيما يتعلق بي على الأقل؛ الكتابة بعين المستكشف الفضوليّ أمتعُ من الكتابة بعين الخبير الملمّ بكل شيء. إنها لا تكفّ عن إدهاشي، وتجعلني أشتبك مع العالم بشكل غير مسبوق. باختصار؛ إنها تعيدني إلى طفولتي. • رغم نتاجك الوفير ما زلتِ حتى الآن خارج دائرة الجوائز العربية الكبرى؟ •• هذا صحيح، وهذا ينطبق على آلاف، بل عشرات آلاف الكتّاب حول العالم؛ لذا لا مُشكلة لديّ مع الأمر. • فيما عدا قلة من الأسماء لم تفلح الرواية العربية في اختراق سوق النشر الغربية.. فما الأسباب برأيك؟ •• نُدرة الترجمة، غياب المشاريع الساعية لتحقيق تبادل ثقافي على هذا المستوى. تركيز الترجمات على الكتب الحائزة على الجوائز، وهو أمر مفهوم ومبرر أيضاً. • لديكِ الكفاءة لتقلد مناصب قيادية في المؤسسات الثقافية، فهل عزوفك عنها راجع إلى رغبتك في التفرغ للكتابة؟ أم تعتقدين أنها محكومة بشروط؟ •• السبب الحقيقي، وبصراحة، أنني أحبُّ حياتي كما هي ولا أريد أن أغيّر فيها شيئاً. أحبُّ الحرية والخفة والسعة، أن أكون قادرة على قراءة مئة صفحة يومياً، على كتابة ألف كلمة يومياً، أحب أن أكون حرّة في أن أفعل وألا أفعل. إن قدرتي على التأثير الثقافي متحققة من خلال مكتبة تكوين، ما حاجتك لمنصب قيادي إذا كنتَ حُراً؟ • كانت لكِ ولمجموعة من الأدباء والناشطين جهود لافتة في التصدي للرقابة في الكويت فتحولت من مسبقة إلى لاحقة، ألا يشكل هذا التحوّل خطراً على الكاتب؟ •• الخطر على الكاتب موجود في قانون المطبوعات منذ صدوره في 2006، وقد حاولنا في جولتنا الأخيرة أن نخفف من غلوّ مواد العقوبات لكنّ المحاولة فشلت بسبب رفض الحكومة. لم يكن الكاتب محصناً من التقاضي قط؛ لا في ظل الرقابة المسبقة ولا اللاحقة. لكن المشكلة ليست في العقوبات المنصوص عليها في قانون المطبوعات، بل في عبارة «مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في قوانين أخرى» والتي تجعل القاضي مخيراً في الاحتكام إلى قانون المطبوعات أو قوانين أخرى؛ قانون أمن الدولة مثلاً، أو قانون الجزاء. ما نسعى إليه في القادم هو سدّ هذه الثغرة، والأمر خاضع لواقع سياسي أكبر منا جميعاً، لكننا يا سيدي نحاول. أما بالنسبة لما حققناه من مكاسب، فقد تضاعفت حرية الكتب في التدفق إلى خارج الكويت، لن تكون هناك آلاف العناوين المحجوزة في معرض الكتاب القادم، لأن وزارة الإعلام لم تعد هي الخصم والحكم فيما يتعلق بصلاحية الكتب للتداول. هذا التغوّل السابق في دور الوزارة هو الذي تسبب في مجزرة منع أكثر من 5000 عنوان في السنوات الأخيرة، وقد تم تلافيه للقادم. • في «حارس سطح العالم» تمازج الخيال بالواقع، وبات الرقيب جزءاً من عالم الكتب ومتاهاته، إلى أي درجة - في حياتنا الواقعية - تكون الكتب ملاذاً وأحياناً مهرباً من الواقع وولوجاً في المُتخيّل؟ •• أعتقد بأن الإجابة الأبلغ لتساؤلٍ كبير مثل هذا هو في الاقتباس من باموق أيضاً عندما قال: «قرأتُ كتاباً ذات يوم ثم تغيرت حياتي كلياً». نحنُ لا نذهب إلى المتخيّل لنهرب من الواقع، هذه قراءة تبسيطية لما يحدث فعلاً، نحن نذهبُ إلى المتخيل لنتسلّح لمواجهة الواقع، لنصبح أقدر على قراءته. إن الفاصل بين الواقعي والمتخيل، داخل رأسي على الأقل، هو فاصل وهمي يشبه خط الاستواء، لأن العلاقة بين العالمين أكثر تعقيداً والتباساً من هذه الثنائية الاختزالية بالغة التبسيط. • في الرواية ذاتها تحاورتِ مع نصوص شهيرة عدّة، وشيّدتِ النصّ على إثرها. هل كان من السهل أن تجدي صوتك الخاص وسط هذا كله؟ وهل تأويلاتنا للقصص بإمكانها أن تخلق حكاية جديدة تخصّنا؟ •• لم يكن صعباً أن أعثر على صوتي وسط أصوات الآخرين، لأنها أصوات أحبها وأعرفها جيداً وأستطيع أن أغنّي معها. ورداً على سؤالك الثاني؛ إنّ كل حكاية نكتبها هي محض تأويل ومحاكاة ومشاغبة ومعارضة لحكاياتٍ كتبت قبلاً. يقولُ مانغيل: «ليس ثمة قراءة بريئة». وأقول: «وليس ثمة كتابة بريئة أيضاً». إن القول بفكرة الأصالة المطلقة هو نرجسية أو سذاجة، فالنصوص في حالة تحاورٍ فيما بينها طوال الوقت، أدركنا ذلك أم لا، أحببناهُ أم لا. بمعنى آخر، ليس الأمر أننا قادرون على خلق حكاية تخصنا من تأويلاتٍ لقصص أخرى، بل نحن، أصلاً، نفعل ذلك طوال الوقت. • في مطلع هذه الرواية أيضاً ذكرتِ أن أحداثها في المستقبل، في مكان غير معلوم، بينما رسمتِ في روايتك معالم دولة من بقايا الماضي.. كيف يتهرب الروائي من واقع يتفاعل معه؟ •• بسبب نشاطي ضد الرقابة، لم أشأ أن تتحوّل الرواية إلى كتابة انتقامية من الرقابة في الكويت، أو من الرقابة مطلقاً. إن مطالباتنا بقضايانا العادلة شيء، وكتابة العمل الفني شيء آخر، لأن الأخير يخضع للشرط الجمالي قبل أي شيء. تقوم الدستوبيا أصلاً على مبدأ المبالغة، أن تأخذ بذور الواقع الحالية وترى إلى أي حد يمكن أن تنمو في المستقبل، إلى أي حد يمكن أن نصل؟ إن الخروج من الجغرافيا المحلية ليس تهرّباً من الواقع. بل هو عملية توسعة لسؤال الحرية وعلاقة الواقع بالمخيلة، أما بالنسبة لكيف نغيّر ذلك الواقع بكل ما يعتريه من سوء، فأعتقدُ بأن ذلك يحدث بتعديل التشريعات لا بكتابة روايات ساخطة. • في «كل الأشياء» حاولت جمع أفكار متشعبة في رواية واحدة، وأن تتحدثي عنها، هل تستطيع الرواية أن تكتب عن كل الأشياء؟ •• أعتقد بأن من قرأ الرواية يعرفُ بأنها لا تتحدث عن كل الأشياء، لأنَّ ما من رواية تستطيع إتيان ذلك؛ إنها حكاية الأب الذي ماتَ وترك كل الأشياء بلا أسماء، أو بأسماءٍ مزورة، وترك للابن مسغبة إعادة التسمية. كيف يمكن أن تكون نفسك إذا كان كل ما تريده، تريده حقاً، هو أن تصير والدك؟ وما علاقة اللغة في عملية خلقنا لأنفسنا؟ إن ما يبدو مثل تشعّب هو في الحقيقة اشتباك؛ اشتباك السياسة مع الحب، بكل ما سيسفر عنه ذلك من ثيمات مثل محاربة الفساد وجرائم الرأي والديموقراطية بوصفها عملية اختيار للمرق الذي ستطبخ بهِ، على حد تعبير غاليانو.