سعدت بتلقي إهداء من معالي الأستاذ إياد مدني عبارة عن كتاب بعنوان «من بلاط صاحبة الجلالة» جمع بين دفتيه مقالات نشرها على مدى خمسة عقود تقريباً؛ فأول مقال نشر في شهر يونيو 1970 تحت عنوان «الانفصال» تحدث فيه عن ضرورة ارتباط الكاتب بحياة الناس وواقعهم ليكون لما يكتب معنى وأثر. ولكن وقبل الحديث عما تضمنه الكتاب من أفكار وجدتها متقدمة جداً في طرحها ومعالجتها آنذاك، أشير إلى أنني عرفت معاليه قبل عشرين عاماً تقريباً حين كان وزيراً للثقافة والإعلام وكنت حينها مستشاراً لوكيل الوزارة للإعلام الخارجي سمو الأمير تركي بن سلطان رحمه الله. وقد شدني منهجه في إخراج الوزارة من وظيفتها التقليدية لتكون شريكة في الحراك الوطني في كافة أبعاده. ومن بين مظاهر ذلك المنهج المتقدم تبنِيه ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية السعودية مساراً شعبياً من خلال تشكيل ما سمي بوفد المجتمع المدني من شخصيات أكاديمية وثقافية واجتماعية لمرافقة الملك عبدالله رحمه الله في زيارتيه للصين والهند. ولعلنا اليوم ندرك أهمية تلك الخطوة غير التقليدية في العمل الدبلوماسي على مستوى العالم حيث أصبحت الدبلوماسية الشعبية مطلباً ثابتاً في السياسة الخارجية. وأتيحت لي الفرصة مرة أخرى للتعرف على معاليه عن قرب بعد توليه أمانة منظمة التعاون الإسلامي حين كنت عضواً في الهيئة المستقلة الدائمة لحقوق الإنسان لمدة ست سنوات تبيَنت خلالها رؤيته الثاقبة التي تعكس معرفة عميقة جداً بالإشكالات التي تواجه العالم الإسلامي في علاقته مع الغرب، وكيفية التعاطي معها بمنهج يتجاوز الأطروحات التقليدية يمكن تسميته بالإيمان بحق المسلمين في الشراكة الحضارية في إدارة العالم وأهمية الاعتزاز بهذه الشراكة وشروط تحقيقها. ولا شك أن هذه رؤية كانت ولا تزال صعبة الترجمة إلى واقع بالنظر إلى موقف الغرب من الإسلام، وكذلك نظرة المسلمين لموقعهم في العالم. لقد وجد معاليه في حلقات النقاش التي كانت الهيئة تعقدها سنوياً حول قضايا حقوقية كبرى فرصة لتعميق النقاش حول تلك الرؤية حيث كان حريصاً على حضور كامل الحلقة والبقاء حتى انتهائها والمشاركة الفاعلة في الحوار الذي يشارك فيه، إضافة إلى أعضاء الهيئة، خبراء دوليون ومندوبو الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. ما وجدته بين دفتي الكتاب من عمق فكري حتى في مناقشته لقضايا اجتماعية عامة تبدو بسيطة يعيد تأكيد قناعتي بأن الأستاذ إياد مدني من أعمدة الفكر في المملكة الذين جهلناهم لقلة إنتاجهم. الكتاب تضمن مقالات ناقشت قضايا اجتماعية واقتصادية وفكرية وسياسية، بالإضافة إلى نماذج من حوارات صحفية مع شخصيات سياسية وجدت فيها درساً في كيفية إدارة الحوار الصحفي أتمنى من الصحفيين المعنيين بإجراء الحوارات الاطلاع عليها للاستفادة منها حيث تجد الأسئلة تولِّد أسئلة أخرى وهذا أسلوب لا يقدر عليه سوى صحفي محترف، ويتبين هذا بمقارنتها بالحوارات الصحفية التي تمتلئ بها الصحافة العربية حيث القفز في الحوار من موضوع إلى آخر دون علاقة بينها بشكل يكشف قوالب الأسئلة الجاهزة المغلقة. لعلي هنا أتوقف عند بعض ما تضمنه الكتاب من مقالات، وأشير إلى مقال نشره قبل خمسين عاماً تحدث فيه عن التطور التقني وأثره على الحياة الإنسانية واستخدم فيه عبارة «العصر الإلكتروني» وأثره على وظائف الاتصال الإنساني، وكأنها نبوءة تصف ما نعيشه اليوم حيث التواصل المستمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تكاد تلغي التواصل الفعلي لدرجة الشعور بعدم الحاجة إليه فرسائل الواتس التي لا تنقطع تمنح الإنسان شعوراً خادعاً بالقرب مع من يتواصل معهم وهو ما يفسر حالة القلق المجتمعي رغم عدم انقطاع التواصل. في مقال آخر يتحدث عن الآثار الخطيرة للانفجار المعلوماتي على تماسك المجتمعات فهذا التنوع والتعدد في مصادر المعلومات قد يؤدي إلى «تحول المحيط الاجتماعي إلى جزر منفصلة تعتمد كل منها على مصادر مختلفة للمعلومات... وما يصاحبها من رموز ودلالات بحيث تتحول البيئة الاجتماعية الواحدة إلى مجموعة من التكوينات الاجتماعية المتباينة إن لم تكن متنافرة». الكتاب تضمن عدة مقالات في الشأن الاقتصادي كان محورها وظيفة رجال الأعمال في التنمية الوطنية من خلال طرح تساؤل إن كان هؤلاء حقاً يمثلون فئة اجتماعية لها دور في التحول الثقافي والاجتماعي، أم أنهم مجرد أصحاب دكاكين ووسطاء وتجار أراضٍ. ورغم مرور عقدين على المقال وما مر به المجتمع من طفرات تنموية، إلا أن هذا التوصيف لا يزال قائماً فلم يتحول هؤلاء إلى رجال أعمال لهم «وجود اجتماعي». في مقال نشر في 1986 تحت عنوان «دعوة للحوار» جاءت فقرة حين تقرؤها يذهب تفكيرك مباشرة إلى رؤية المملكة 2030 حيث يتساءل «ما هي رؤيتنا لأنفسنا ومجتمعنا ومستقبلنا، والطريق الذي نسلكه نحو هذا المستقبل؟ وماهي عناصر هذه الرؤية وسماتها ومدى وضوحها وعمق قناعتنا بها وبالتالي استعدادنا للتضحية من أجل بلورتها والوصول إليها؟» تساؤل جاءت رؤية 2030 كإجابة دقيقة عليه بمحاورها الثلاثة: مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح. مقال آخر يتحدث عن استراتيجيات تصحيح الصورة الذهنية في الغرب ويحذِر من ضياع جهود إعلامية «حسنة النية» لتغيير تلك الصورة انطلاقاً من افتراض بإمكانية التأثير من خلال حملات علاقات عامة، فالرأي العام في الغرب عبارة عن «مجموعة مصالح» ولذلك يجب تحديد أصحاب هذه المصالح التي تؤثر في القرارات تجاهنا والوصول إليهم، دون انشغال بتصحيح صورة تشكلت عند فلاحي ولاية «أيوا» أو عمال مناجم «الراين». أفكار وأطروحات كثيرة تضمنها الكتاب تميزت بالعمق في المناقشة والجرأة في الطرح في وقت متقدم من عمر الصحافة السعودية جديرة بالقراءة وإعادة البحث خلال هذه المرحلة التي تعيش فيها المملكة طفرة غير مسبوقة في التحول الشامل تقتضي بلورة رؤية فكرية جامعة. كاتب وأكاديمي سعودي