تغمرني مشاعر بهيجة وأنا أعيش من أرض الشهداء الجزائر مرحلة عظيمة من نجاحات مملكتنا الحبيبة، التي تسجل اليوم في تاريخ البشرية بحروف من ذهب قصة قيادة رشيدة وشعب كريم بذلوا النفس والنفيس على نهج سلفهم من الملوك، في سبيل خدمة ضيوف الرحمن، مهما كانت الظروف ومهما اشتد البلاء. فبقدر ما شكّل قرار المملكة العربية السعودية بتنظيم موسم حج 1441 تحديا جديداً في ظل انتشار وباء «كوفيد-19» وزيادة عدد ضحاياه حول العالم، بقدر ما رفعت المملكة هذا التحدي بهمة تعلو القمة تجسدت في أبهى حللها من خلال موسم الحج المميز هذه السنة. ولأن الصورة تغني أحيانا عن ألف كلمة، فلقد كانت صورة طواف القدوم لحجاج بيت الله الحرام مطبقين التباعد المكاني (الاجتماعي) يطوفون حول الكعبة المشرفة بكل انسيابية وانسجام محترمين الإجراءات الوقائية والإحترازية مفوّجين بمرافقة الفرق الطبية والأمنية رسالة عابرة للقارات رسمت في العيون والأذهان إنسانية المملكة بحرصها على حفظ النفس دون تعليق العبادات. وبالحديث عن الإنسانية والعدل والإنصاف، فلقد كانت ولا زالت المملكة العربية السعودية ترسم صورا عظيمة وتخط بسياسات خادم الحرمين الشريفين وولي العهد مسارات راقية في سبيل إحقاق المساواة عملا بقول النبي عليه الصلاة والسلام «لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى»، ففي الوقت الذي يعيش العالم على جرائم شنيعة ضد العنصرية المقيتة عمدت المملكة إلى انتقاء حجاج هذه السنة ممن تتوفر فيهم الشروط من المواطنين والمقيمين وفق مبدأ أخلاقي عادل، حيث يمثل المقيمون المشاركون في الحج كل الجنسيات من كل العالم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على توجيهات القيادة الرشيدة للمملكة على تحقيق المساواة بين كل الجنسيات دون معاملة تفضيلية وهو في نفس الوقت رسالة تضامن إلى كل من كان ينوي الحج هذا الموسم: أنتم في قلوب المملكة برعاياكم من الحجيج. لقد عرّف نجاح تنظيم حج هذا الموسم القاصي والداني عبر أصقاع العالم بإستراتيجية المملكة العربية السعودية الناجعة في تنظيم المواسم الدينية بشكل آمن وصحي وفي كنف الرعاية التامة والوقاية الفعالة، وليس غريبا عن المملكة هذا النجاح، وهي التي تزخر برصيد غني بتجارب مواسم الحج والعمرة من كل عام ما أكسبها براعة لا متناهية في إدارة الحشود وتأمين الملايين قاصدي بيت الله الحرام من كل سكان المعمورة بألسن مختلفة في حيز مكاني وزماني محدد. إن حج موسم 1441 ورغم المرحلة الصعبة التي يمر بها العالم لم يكن ليتأتى بهذا النجاح الباهر لولا التحول الرقمي العملاق للمملكة في شتى المجالات ومنها تنظيم مناسك الحج أو ما يصطلح عليه بالحج الذكي، وهذا بتنفيذ وزارة الحج والعمرة والقطاعات المشاركة معها إستراتيجية التحول الرقمي ضمن توجهات المملكة لتحقيق أهداف رؤية 2030، فتم إدخال التقنية الحديثة في جميع مراحل الحج، من إصدار التأشيرة حتى أداء آخر ركن من المناسك، ويشمل استعمال التقنية والذكاء الاصطناعي تأمين الحشود وإدارتهم عبر مختلف المنافذ في المشاعر بما يضمن أمنهم وسلامتهم، دون احتكاك أو ازدحام، ولم يقتصر التحول الرقمي للمملكة على الجانب الأمني، بل تجاوزه إلى البطاقة الذكية والمنصات الافتراضية المستعملة في الإيواء والتفويج والإسكان والصحة، والتي تيسر على الحجاج أداء مناسكهم بكل راحة وأمان. وأنا أكتب هذه الكلمات شدني منظر شمس عرفة على مشارف الغروب، وحجاج بيت الله الحرام على مهبة النفير إلى مزدلفة بخشوع وتضرع للمولى يطلبون رحمته ويرجون غفرانه، وإن كانت عين الله ترعاهم وهم في حرمه الطاهر فإن أبطال وزارة الصحة السعودية يقفون وقفة حزم وعزم حتى يؤدي الحجاج مناسكهم بسلام وأمان في تنظيم محكم وأداء منسجم معتمدين على الإستراتيجية التنفيذية لموسم حج 1441 بعناية فائقة التجسيد وبالاهتمام بأدق التفاصيل، وهي الخطة التي حرصت على كافة التدابير الاحترازية الوقائية بتخصيص مساحة محددة للحجيج داخل المشاعر المقدسة، وبتوفير كل الحاجات الصحية والتموينية ضمن خطة تنفيذية شاملة لجميع مراحل الحج. فالتقييم الأولي لهذا الموسم بعد أداء الحجاج للركن الأكبر عرفة ونفيرهم لمزدلفة بكل أمان يسمح لنا بالقول إن الإجراءات الوقائية والبرتوكولات الموضوعة من العزل الصحي المؤسسي (من يوم 4 حتى 8 ذي الحجة) إلى إلزامية ارتداء السوار الإلكتروني الذي يحمل عبارة ''تطمن" للتأكد من تطبيق التباعد المكاني مطمئنة جدا، وما رافقها من فرق أمنية وطبية بتجهيزاتها الكاملة المتنقلة تسمح بالتدخل في أي طارئ لا قدر الله، كل هذا ساهم في سلامة الحجاج ولله الحمد حيث لم يتم تسجيل أي إصابة بالوباء أو أمراض أخرى ما يدل على نجاعة السياسات المطبقة والخطط المنفذة وقدرة وزارة الصحة السعودية وأجهزتها على وقاية آلاف الأشخاص في حيز مكاني محدد بكل سلام وآمان. ومما لا شك فيه أن كل هذه الجهود الطيبة التي أثمرت حجا آمنا سالما بكل ما تعنيه الكلمة من معنى جاءت نتيجة للتوجيهات القيمة والحرص الشديد من القيادة الرشيدة للمملكة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين وولي العهد، اللذين يجعلان أمن ووقاية الحاج وسلامته الصحية وراحته ضمن أولى الأولويات في المملكة، وهي توجيهات أثمرت تسخير كل الإمكانيات وجعلها تحت تصرف الهيئات المنظمة للحج ما سمح بتقديم أرقى الخدمات وتطبيق أعلى معايير السلامة، وليس بغريب عن قيادة المملكة على مر السنين توفيرها لكل الإمكانيات وما جادت به بلاد الحرمين خدمة لضيوف الرحمن. ورغم أن مشاهد حجاج بيت الله الحرام وهم ينتقلون بين المشاعر أبكت كثيرين ممن حرموا من أداء مناسك الحج هذا الموسم لظروف الجائحة إلا أنها أبهجت الملايين من المسلمين الذين فرحوا لإخوانهم الحجاج وفرحوا بنجاح موسم حج 1441 رغم كل التحديات الخطيرة التي حملها، وفرحوا بالصورة المشرفة التي رسمتها المملكة ونقلتها لكل العالم، صورة إسلام الحضارة، وعباداته التي تمارس بأساليب حضارية تحفظ النفس وتصون البدن. وها نحن نستقبل عيد الأضحى المبارك بغبطة وسرور، والعيد عيدان، بعد أن منّ الله علينا بمغادرة سيدي خادم الحرمين الشريفين المستشفى بالصحة والعافية ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقدم لخادم الحرمين الشريفين وولي العهد أسمى التبريكات بعيد الأضحى المبارك وأجمل عبارات الشكر والثناء اللذين لا تفيهما العبارات ولا الكلمات، لكنهما بإذن الله قد نالا نصيبهما من الدعاء الصالح الذي جادت به حناجر حجاج بيت الله الحرام والمسلمين في كل بقاع العالم، كما أقدم أحر التهاني بمناسبة عيد الأضحى المبارك للجزائر قيادة وشعبا راجيا من المولى العلي القدير أن يغمر هذه الأرض الطيبة بالرخاء والنماء في كنف الجزائر الجديدة. * عبدالعزيز بن إبراهيم العميريني سفير خادم الحرمين الشريفين لدى الجزائر