منذ خلوتنا وعزلتنا الأخيرة بسبب جائحة كورونا، ونحن نعيش عوالم مختلفة جعلتنا في مواجهة حقيقة وصارمة مع الذات مباشرة، هكذا ودون مقدمات! ورغم صعوبة اللحظات والساعات والأيام والليالي الطوال، إلا أن تلك الفترة تبدو مهمة لنا، وكأنها تعيد ترتيب أرواحنا من جديد، وتهيئ الوجوه والملامح لمرحلة جديدة تبدو غامضة، بل ومتناهية في غموضها؛ لترسم عالمًا جديدًا.. لا يهم.. لعلي أتحدث عن أدب العزلة، عن الكتابة والإبداع في تلك العوالم، التي كان يختارها الفيلسوف والأديب والمفكر وعالم الدين والمتصوف والراهب بإرادته حيث الوحدة والخلوة مع النفس، والتي كانت تمثل له فرصة لممارسة طقوسه الخاصة والممتعة وكان الاختيار رغبة وقرارا مبهجا، حيث الانفراد بالذات بعيدًا عن البشر والعالم. لكن أزمة كورونا هي التي اختارت ورسمت عزلتنا وعزلة العالم بأسره، ورغم هذا تبدو العزلة الأخيرة مثيرة والتفاصيل كثيرة. وللفلاسفة والأدباء والكتّاب تجاربهم المنوعة التي تركوها لنا في فترات مضت، فالكثير منهم كانوا يفضلون العزلة، والصمت والتأمل، فيرى الروائي الروسي الشهير دوستويفسكي العزلة فرصة بأن يواجه الإنسان عقله ويقول: (مشكلتنا يا صديقي.. كلما نضج العقل فضلنا الانعزال والوحدة). أما الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي فيدعو للوحدة حيث يقول: (أنت في وحدتك بلد مزدحم) مؤكدا على أهمية عوالم العزلة غير أنه ليس وحيدًا بل يبدو مزدحما بالعوالم التي يحبها. وثمة فرق بين الوحدة والعزلة فالعزلة مفهوم أشمل وأعرض من الوحدة بمفهومها الضيق؛ فالعزلة لها بعدها الصوفي النبيل. وللعزلة أيضا أهميتها وحضورها في التراث العربي والإسلامي. لكننا سنبقى مع الشعراء في عزلتهم البائسة والحزينة حيث يقول جبران خليل جبران: (إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت). بينما يرى الشاعر العربي صفي الدين الحلي، أن الخلوة بالنسبة له تعتبر أطيب الأوقات يقول: وأطيب أوقاتي من الدهر خلوة يقر بها قلبي ويصفو بها ذهني إن عزلتنا اليوم، لا تبدو عزلة بمفهومها الحقيقي، فنحن نزدحم بمواقع التواصل، والتطبيقات الذكية، نتواصل على الهواء مع الأحبة والأهل والأصدقاء في كافة أصقاع الأرض، وهو الذي يخرجنا من العزلة التي يسعى إليها الشعراء والفلاسفة والأدباء. ولربما هي نعمة تخفف عن الكثيرين وجع العزلة وهواجسها، فالسواد الأعظم من البشر يكرهون العزلة والوحدة؛ لكن العظماء وحدهم يختلون بأنفسهم ويعتزلون الناس. وجاءت خطوة وزارة الثقافة في بلادنا، رائعة ومواكبة للحدث؛ حينما أطلقت مبكرًا ومنذ إعلان منع التجول، منصة أدب العُزلة التي تهدف إلى منح الفرصة أمام محبي الكتابة للمشاركة بإنتاجاتهم الأدبية والإبداعية، من قصص وروايات ويوميات، ونصوص شعرية، والتي يتم العمل عليها في فترة العزل الوقائي، بسبب الجائحة التي نسأل الله جلت قدرته أن يصرفها عنا جميعًا، لتعود الحياة أكثر إشراقًا. * كاتب سعودي ALOKEMEabdualrh@