بعد أن هدأت العاصفة التي صاحبت إعلان هيئة تقويم التعليم والتدريب لنتائج تطبيق الاختبارات الوطنية لعام 2018م، خطر في ذهني قصة صديق لي أصيب بمرض عضال وتوجه إلى أحد المستشفيات العالمية في إحدى الدول الغربية، وأكدوا له في تقاريرهم بعد إجراء الفحوصات والتحاليل أنه مصاب بالمرض فعلاً، وقد أجرى صديقي الفحوصات ثلاث مرات في هذا المستشفى العالمي على مدى سنوات عدة، وفي كل مرة يغادر المملكة كان يُمنّي النفس بأن تكون هناك بوادر للشفاء إلا إنه يكتشف في كل مرة بأنه ما زال يعاني من هذا المرض، وفي رحلته في الصراع مع المرض قرّر أخيراً أن يفحص عند أحد المستشفيات في المملكة، وأطلع الأطباء على تقاريره المرضية واكتشفوا أن صديقي مصاب بهذا المرض، إلا أن هؤلاء الأطباء لم يتوقفوا عند تقديم الفحص بل إن كبير الأطباء طاف على زملائه بإعلان أن تشخيصه يتفق مع تشخيص المستشفيات الغربية الذين شخصوا المرض منذ أكثر من خمس عشرة سنة! ذكرني هذا المشهد بهيئة تقويم التعليم والتدريب، التي أعلنت نتائجها وأبانت أن أداء البنات أعلى من أداء البنين، ويُظهر وكأنها وضعت يديها على اكتشاف تربوي وبيانات ثمينة لم تكن معلومة، وأن هذا سبق تربوي لابد أن يُحتفى به ويطوف على عقول أفراد المجتمع، بينما الواقع والمنطق أن وزارة التعليم في وقتها الحالي بدأت خطواتها الإصلاحية العاجلة وفق بيان الوزارة منذ أشهر، هذا باختصار خلاصة ما يدور بين هيئة تقويم التعليم والتدريب ووزارة التعليم، فالوزارة تعلم أن نتائج طلابها متدنية في الاختبارات الدولية كاختبارات TIMMS -الاتجاهات العالمية في التحصيل الدراسي للرياضيات والعلوم-؛ حيث احتلت المملكة مستويات منخفضة جدّاً في نتائج هذه الاختبارات، كما أظهرت أن المملكة هي الدولة الأولى على مستوى العالم التي كان أداء البنات فيها أعلى من أداء البنين بفروق ذات دلالة إحصائية في نتائج 2015م، وللمهتمين - يمكن الرجوع إلى موقع- http://timssandpirls.bc.edu/. والسؤال الذي يبرز هنا ما الجديد في إعلان هيئة تقويم التعليم والتدريب؟! ولماذا الإعلان في هذا الوقت؟ إن الخطوة التي أقدمت عليها هيئة تقويم التعليم في إعلان هذه النتائج ولأول مرة أمام المجتمع من خلال المؤتمر الصحفي وتقديمه على أنه يأتي في إطار من الشفافية فهو في جوهره مطلب مجتمعي، إضافة إلى أنه متطلب مهني من قيادات التعليم في الوزارة والهيئة والجامعات وإدارات التعليم ومديري المدارس والمعلمين وأولياء الأمور وحتى الطلاب، لرص الصفوف وتوحيد الجهود لمعالجة هذه الأزمة، إلا أن محاولة إبراز هذا الحدث وتعظيمه من خلال مؤتمر صحفي أثار سؤالاً مشروعاً ما زال يبحث عن إجابة، فهل الممارسات المهنية والعالمية تؤيد هذا السلوك الإعلامي من الهيئة، وقبل حتى الاجتماع بأصحاب المصلحة وذلك وفق مضامين بيان وزارة التعليم؟ إذ كان من المتوقع أن يكون هناك لقاءات بين الجهتين للنقاش حول النتائج وتفسيراتها ومدى مصداقيتها ودقتها ومنهجيتها وغيرها من القضايا، فلقد كان على الهيئة أن تدرك أن الغاية العليا للتقويم تكمن في تحسين الأداء وتطويره الذي بمقتضاه تكون الشراكة الحقيقية بين الكيانين. ومما زاد الوضع تأزماً في الابتعاد عن هذه الغاية إطلاق التغريدات من رئيس الهيئة على شبكات التواصل الاجتماعي والتي أثارت علامات استفهام كبيرة نحو طبيعة مرحلة التعاون القادم، وأثارت مستوى من الحساسية في العلاقات المهنية بين الهيئة والوزارة في مقتبل الأيام، إذ لا يوجد تفسير علمي أو منطقي لهذه التغريدات وخصوصاً إذا ما تمت مقارنته بسياسة من تولى دفة الهيئة في السابق من القيادات الوطنية، أو مقارنته بسياسات الخبراء المهنيين في مؤسسات التقويم الدولية، ويزداد الموضوع إثارة أن منصب معاليه هو منصب غير تنفيذي في الهيئة، وإن كان هناك تفسير لهذا السلوك -في رأيي- فهو من خلال فرضيتين هما: الاعتقاد بأن بريق الهيئة يزداد توهجاً كلما انخفضت درجات طلابنا، ومن ثم الكشف عن هذا الضعف لأفراد المجتمع، وهذا فيه اعتقاد بأن الهيئة تقوم بمسؤولياتها وواجباتها بشكل متقن، ومن ثم يستثمر رئيس الهيئة هذه النتائج في تسجيل الحضور المستمر على المشهد الإعلامي. أما الفرضية الثانية فهي في ازدواج الأدوار بين دور رئيس الهيئة كمسؤول حكومي وبين دوره كناقد وكاتب إعلامي على اعتبار أن تاريخه يحفل برصيد من الصولات والجولات في الميادين الإعلامية، إذ لم يستطع رئيس الهيئة أن يفصل بين هذين الدورين في شخصه، فالقرب من المعلومات والبيانات تثير الشهيّة الاتصالية مع الجمهور بالكتابة في شبكات التواصل الاجتماعي، في حين أن طبيعة المنصب الوظيفي يقتضي الحكمة والتعامل بهدوء، وهذا هو ديدن السياسة المحلية في دولتنا - أعزها الله - بعدم إثارة البلبلة، ثم أن هذه النتائج -أصلا- متاحة من أفضل المؤسسات الدولية، بل إن جهود الهيئة في الواقع -ودون مبالغة - هي جهود مكررة للمؤسسات الدولية، ودور الهيئة تمحور حول تأكيدها بأن هناك ضعفاً في مخرجات النظام التعليمي، ولاشك أن إعادة قياس الشيء نفسه ينطوي على هدر في الجهد والمال وخصوصاً إذا كانت النتائج مقدمة من مؤسسات دولية معتبرة، وإن كان هذا الاستنتاج خلاف ذلك فعلى الهيئة أن تكتفي في المستقبل بما لديها من اختبارات وطنية ذات خصائص لا تتوافر في غيرها من المقاييس الدولية، وأن تُوقف اشتراكها في منظومة الاختبارات الدولية. إن هذه النتائج هي معروفة لقيادات الوزارة ومن بينهم رئيس هيئة تقويم التعليم والتدريب حينما كان وزيراً للتعليم وغيره من المهتمين، حيث كانت الوزارة تدفع مبالغ مالية للاشتراك في الاختبارات الدولية، وتتحمل التكاليف على المستوى الداخلي في صرف مكافآت للجان والأفراد لتطبيق هذه الاختبارات، كما ينصرف جزء من أوقات المشرفين التربويين والقيادات في الهيئة وفي وزارة التعليم وفي إدارات التعليم على الإشراف على هذه الاختبارات وتصحيحها وهذا هو الآخر مُكلف مادياً، والسؤال الذي يبرز هنا وبعد هذه الجهود البشرية والمصاريف المادية هل استفادت قيادة الوزارة في الفترة الماضية من هذه النتائج أم أنها كانت تمر مرور الكرام؟ وهل كانت الوزارة تنتظر تأكيدات هيئة تقويم التعليم والتدريب على نتائج الاختبارات الدولية؟ ألم تكن تصنيفات المؤسسات الدولية للنظام التعليمي في المملكة كافية في إحداث انتفاضة لدى قيادة وزارة التعليم في الفترة الماضية كي تقوم بواجباتها وإصلاحاتها التربوية اللازمة؟ وحتى أكون أكثر إنصافاً دعونا ننظر كيف تم التعامل مع أزمة تدني أداء مخرجات التعليم، وأن يكون الحُكم قائماً على التوسل بالحقائق على الأرض في كيفية التعامل مع أزمة الضعف التي تُعاني منها مخرجات وزارة التعليم، أو بمعنى أخر نقارن بين فترتين تاريخيتين في كيفية التعامل مع حالة الضعف التي تعاني منها مخرجات وزارة التعليم على الرغم من أنها مقارنة غير عادلة في مداها الزمني. وللتاريخ فنحن أمام مفارقتين في أداء وزارة التعليم، فالفترة السابقة لم يكن هناك توجه صريح لوزارة التعليم في مجال رفع التحصيل الطلابي على وجه الخصوص، قد يكون ذلك حاضراً في عقول المسؤولين لكن لم يكن هدفاً معلناً للوزارة، بحيث تُرسم الحلول مع إدارات التعليم والمدارس وتكون هماً للجميع وهدفاً يعتصم به جميع قيادات الوزارة وإدارات التعليم والمدارس، وقد لا نتجاوز الحقيقة في القول بأن نتائج الاختبارات الدولية كانت تمر بهدوء على الوزارة، حيث يُكتفى بالبيانات الصحفية والتعبير فيه بأن النتائج ليست مرضية لقيادة الوزارة دون البدء بإصلاحات حقيقية شاملة، وقد يُعزى ذلك إلى أن رئيس الهيئة لديه أصلاً موقف سلبي من الاختبارات المعيارية ويمكن الرجوع إلى مقالته بعنوان «اختبارات قياس.. وخطرها على التعليم» المنشورة في صحيفة الحياة بتاريخ 29 أبريل 2014م والتي ختمها بقوله: «إن الرسالة التي نوصلها من خلال تلك الاختبارات لمن نريد منهم أن يتحملوا مسؤولية وأمانة التعليم، هي أننا لا نثق بكم لقياس مستوى تحصيل طلابكم أو قدراتهم بل سنقدمها إلى جهة أخرى، وهي التي ستحكم على مستوى أدائكم وأداء طلابكم. هذه الرسالة الخطأ قاتلة وستؤدي إلى زعزعة الثقة بالنظام التعليمي كله.. إن هذه الانعطافة التي يتخذها النظام التعليمي نحو الاختبارات المعيارية؛ للمفاضلة بين نوعية المعلمين -كما هي الحال في اختبارات كفايات المعلمين، أو لقياس مستوى التحصيل العلمي في مراحل التعليم المختلفة- هو تطور نحو الأسوأ، في الوقت الذي كنا ننتظر مشروعاً إصلاحياً شاملاً للنظام التعليمي». هذا هو رأي معالي رئيس هيئة تقويم التعليم والتدريب وموقفه المضاد من الاختبارات المعيارية حينما كان خارج الهيئة، وهذا قد يُفسر ضعف الحماس في معالجة أزمة تدني مستويات أداء الطلاب في تلك الاختبارات حينما كان وزيراً، كما يُفسر تقليله من أهمية «مفاتيح النجاح» في النظام التعليمي المتمثلة في المعلمين بوصفهم «بالشكائين والبكائين». في حين أن الفترة الحالية لوزارة التعليم -وللتاريخ أيضاً- فإن الشعار المعلن لها في فترتها الوجيزة هو تحسين نواتج التعلم، وكأنها في سباق مع الزمن في ردم الفجوات التحصيلية الماضية التي خلفّها ضعف المعالجة الموجّهة، ويمكن الرجوع إلى الفعاليات التي تمت منذ ورشة العمل الأولى التي أقيمت في شهر يناير 2019م وضمّت وزير التعليم الحالي مع مديري التعليم والمساعدين والمساعدات، وناقشت تشخيص واقع التعليم العام والذي أُكد فيها على أهمية تصنيف المملكة في الاختبارات الدولية، وثم تبعته الوزارة بخطوات إصلاحية كما عبر عنه بيان الوزارة، بل إن القيادة العليا للوزارة تجاوزت المتعارف عليه في قصر الاهتمام بالأمور الاستراتيجية إلى الاهتمام بالأمور التفصيلية -أيضاً-، والدخول إلى غرفة الصف الدراسي، ومطالبة المعلمين والمشرفين التربويين ومديري المدارس ومديري التعليم بتحسين مهارات القراءة والكتابة باعتبارها المهارات الأساسية وأدوات التعلم في المواد الأخرى، والاهتمام بوقت التعلم بتخصيص جزء من الحصص الدراسية لزيادة مهارات الطلاب الكتابية، كما بُذلت جهود نوعية في تهيئة جميع طلاب المملكة للدخول في الاختبارات الدولية في دورة عام 2019م، وانتقل الاهتمام إلى التوسع في رياض الأطفال باعتبار أن الإصلاحات التربوية تبدأ من أُسّ المراحل التعليمية، ووظفت الوزارة بيانات تفوق المعلمات في نتائج الاختبارات الدولية في مشروع إسناد تدريس الصفوف الأولى إليهن، بل إن موضوع نتائج الاختبارات الدولية واستعراضها أصبحت فزاعة يُوظفها وزير التعليم في كل لقاء مع قياداته في إدارات التعليم؛ لشحذ الهمم وإبراز التحديات حتى مع مديري الجامعات على اعتبار أنهم مسؤولون عن إعداد المعلمين، ويمكن الوصول إلى هذه القضايا التعليمية التي كانت تناقش في فعاليات اللقاءات من خلال جولة على الشبكة العنكبوتية. إن الفترة الحالية التي تعيشها الوزارة هي -وبكل موضوعية- فترة تتماهى مع التحول الذي تعيشه المملكة في ضرورة أن تتحول المدرسة وإدارة التعليم والوزارة إلى مؤسسات ذات كفاءة اقتصادية إنتاجية عالية بمفهوم اقتصاديات التربية، وأن يُعادل مستوى مخرجات المؤسسات التعليمية -على الأقل- مع ما يصرف عليها من ميزانية الدولة، وألا يُركن إلى رؤى تربوية تستمتع بها العقول دون أن تُترجم إلى أرض الواقع على هيئة نتاجات مقاسة. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الدولة -رعاها الله- أدركت خلال السنوات الماضية ضعف مخرجات التعليم وفق مؤشرات مختلفة، ولم تنتظر حلول وزارة التعليم خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث أسست برنامجاً وطنياً يُعني بإجراء إصلاحات استراتيجية على مستوى النظام التعليمي، ولعل أهم هذه البرامج هو برنامج تنمية القدرات البشرية، وتأتي هذه البرامج في ظل ضعف وزارة التعليم في إعداد حلول استراتيجية للحصول على مخرجات تنافسية. والرسالة التي نختم بها هي دعوة وزير التعليم ومعاونيه من نواب ووكلاء وزارة ومديري تعليم ومشرفين تربويين ومديري مدارس ومعلمين أن يستمروا في إصلاحاتهم العاجلة حيث الرؤية الواضحة، وأن يمضوا نحو تحقيق الإنجازات النوعية، دون الالتفات لأي تجاذبات تجرهم إلى الخلف، وأن يسابقوا الزمن في التطوير وتحسين الأداء، فرحلة الاستثمار في الرأسمال البشري رحلة طويلة جداً، والتركة ثقيلة -وسنتناول هذه التركة في مقال آخر-، كما أن على الهيئة من جهة أخرى أن تستشعر دورها ككيان داعم للوزارة، وأن تنضم إلى قاطرة الإصلاح الشامل، وأن تُوظف مخصصاتها في توفير المعطيات المهمة، وتقديم البيانات الذكية التي لا تستطيع أن تحصل عليها الوزارة من المؤسسات الدولية، كل ذلك لدعم اتخاذ القرارات التطويرية وترشيدها، فهذه هي الغاية التي ارتأتها الإرادة السياسية الحكيمة من تأسيس كيان هيئة تقويم التعليم والتدريب، ولتحقيق ذلك فعلى رئيس الهيئة الحالي التفاعل الإيجابي مع المشروعات الإصلاحية، وأن تضع الهيئة يدها بيد الوزارة، وألاّ تُسيء توظيف التقويم في التقريع به من وقت لآخر، وأن تُدرك أن التقويم وسيلة للإصلاح والتطوير وليس غاية في ذاته، وأن التقويم يخضع لمجموعة من المبادئ والقيم الأخلاقية، دون حاجة رئيسها إلى البحث في أروقة شبكات التواصل الاجتماعي عما يؤكد تغريداته وعباراته ووجهات نظره، أو يكون موضوعاً للفلاشات الإعلامية الجماهيرية. إن الوطن -أيها الكرام- ينتظر التعاون من الجميع أفراداً ومؤسسات حكومية وغير حكومية؛ بهدف تقديم تعليم نوعي يليق بأبنائه، وإعدادهم لمواجهة التحديات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ويهيئهم للدخول إلى معترك الثورة الصناعية الرابعة، فالتعليم لا بد أن يتسق مع المكانة الحضارية للمملكة، ويحقق تطلعات خادم الحرمين الشريفين وطموحات سمو ولي عهده الأمين حفظهما الله التي أرادها لأبناء هذه البلاد في رؤية 2030. والله من وراء القصد. * أستاذ الصحافة ووكيل كلية الإعلام والاتصال للتطوير والجودة بجامعة الإمام isaleh4u@