أهداني صديقي الكريم المفضال أبو الأسفار الدكتور سعيد السريحي وهو عابر الطائف إلى الجبيل ومسافر برّاً لزيارة ابنه نواف كتابه الموسم (بتحرير المجاز)، هامش على جهود لطفي عبدالبديع اللغوية، وقد كتب الإهداء هكذا (إلى الصديق الأعز عالي القرشي بعض وَشَل استقينا من نبعه). والكتاب جذاب لطيف المأخذ وعسر الفهم، وإشكال هذا التناقض في العبارة السابقة هو المجاز نفسه الذي آل في درس النحويين والبلاغيين وعلماء الكلام إلى (هياكل افتراضية لغة تتوافق مع مقولات اللغة) أو كما يقول السريحي (لغة تقوم خارج اللغة مرتبطة بمقاصد واضعها وليس بمقصد من يتحدث بها) ص62. وقد أدى إلى هذه النتيجة افتراض وضع اللغة: وقد احتدم الخلاف في ذلك حتى آل الأمر إلى وهم الاتفاق في المختصرات الذي يرى السريحي أنه وهم ويكشف عما هو مضمر خلف ذلك الاتفاق الذي تغري به المختصرات من خلاف واختلاف يوشك معه ألا يستقر لباحث يقين بما ذهبوا إليه). ص36. والذي أراه أن السريحي وهم بتسلحه بالمعرفة وبفهم جهود أستاذه لطفي عبدالبديع بالوصول لحل لهذه الإشكالات التي انتزعت اللغة من سياقها، ومن فاعليتها، ونشاطها الإنساني فآل به ذلك إلى كشف الإشكال، والدوران في دوائره المضنية من باب (وداوني بالتي كانت هي الداء) وهذا ديدن السريحي لا يهاب الصعب، ولا يخشى وعورة المسلك والتأتي إليه، ومن أجل أن أجلو ذلك سأعود إلى تحرير سعيد وأتابع مسلكه فأجد: 1- أن النحو آل بأن الكلمة تعطل مفهومها الدلالي وآلت إلى صنعة في نقاشهم وجدلهم، وكأنها ليست الكلمة التي كون بها الإنسان والتي جاءت في آيات عديدة من كتابه الكريم تحمل هذا المعنى من مثل قوله تعالى: (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) سورة إبراهيم. وقوله صلى الله عليه و سلم: (الكلمة الطيبة صدقة). عبر سلوك النحاة إليها مسلكا آل بها إلى ذلك، حين أضناهم البحث في دلالتها اللغوية ودلالتها الصناعية فترددت بين الحقيقة التي أومئ إليها وصناعة نحوية أضحت من عالم آخر غير لغوي، أو كما قال السريحي (وبهذا تنتهي صنعة النحو إلى اعتبار دلالة الكلمة على الكلمة عند النحاة هي الحقيقة التي ينبغي قصداً وحمل النظر إلى دلالتها على جملة الكلام عند العرب على أنه مجاز مهمل لا يتعرض له النحاة). ص 26 ،27 . 2- تعطيل فهم الذائقة السليمة والمتبادر إلى الذهن إلى الدوران في دوامة افتراضات لا تبقي فيها ولا تذر من مثل ماعرضه ابن جني في فهم (ضرب زيد عمراً). ص 56. وأرى أن صنيع سعيد هذا يتسم ب: العمق المعرفي الذي جعله يقتحم عالماً من العلم المظنون به على غير أهله، يتردد بين النحو وهوامشه وشروحه وعالم البلاغة بما هُمش عليها و حُشي، وعالم الكلام و جدل المتكلمين، و ما يصح به الاعتداد عقديا وما لا يصح وهذا شأن سعيد في العلم دائماً، وفيما ألف لا يقف عند الساحل بل يقتحم أهوال البحر ليأتي بالصدف واللؤلؤ والمرجان، في سائر مؤلفاته: ابتداءً من رسالة الماجستير التي اقتحم بها عالم المشكل من شعر أبي تمام، ومروراً عبر مؤلفاته الأخرى: البديع عند المحدثين في الشعر العباسي الذي أسماه حين الطبع (حركة اللغة الشعرية) (حجاب العادة) الذي يوحي عنوانه بأن العبور إلى الفهم العميق للأمور وتفسيرها لابد له من قشع القشرة المألوفة وطرحها جانباً ليأتي الفهم و (القهوة) في تفسير تاريخها وشغف الإنسان العربي بها، وما يتدانى إلى ذلك من عالم الصوفية، وطرائقها في مثل كلمة (الشاذلية) ونحو ذلك في الوجدان العربي كيفاً وشعراً، ومواصفات في شرب القهوة اتخذت لها قوانين عرفية ورموز، ودلالات. وانتهاء بمؤلفه هذا الذي نحن بصدده؛ ولكن ما هكذا تورد الإبل يا سعيد، فليس كل قرائك من نمطك أنت الذي تتلمذ على يد لطفي عبدالبديع، ولا من نمط حسين بافقيه الذي يفهم مقاصدك ومع ذلك يتدرع لها بقراءات جادة في الحواشي والشروح كما حدثني. وأقيس بذاتي فأنا الذي تتلمذ معك على أستاذك لطفي عبدالبديع وجلس بين يديه في قاعة الدرس وخارجها، وقرأ في كتبه عانيتُ صعوبة في متابعتك (إلا إذا كنت بدعاً بين الناس، ولا أظنني كذلك؛ ولذلك كنت حذراً في أمر (تحرير المجاز) وذيلت تحت العنوان ب(هامش على جهود لطفي عبدالبديع اللغوية، ومع ذلك أقول: إنك حررت المجاز ولكن بمغامرة في مركب لا يركب معك فيه إلا (من آمن) وقليل ماهم.