يمضي الزمان ويتفرق زملاء الدراسة الذين أحببت صحبتهم ورفقتهم في سنوات الصبا والشباب والأحلام الوردية، فلا تبقى سوى الذكرى التي تمر عليك من آن إلى آخر كشريط سينمائي. غير أني كنت من أولئك المحظوظين الذين رغم افتراقي عن بعض أصدقائي القدامى ورغم افتراقهم عني لسنوات بسبب التحصيل العلمي الجامعي في الخارج، لم ينقطع تواصلنا. من هؤلاء، الصديق العزيز العميد طيار متقاعد عبدالمحسن حمد البسام. أتذكر ونحن في مرحلة الدراسة الثانوية أني كنت أذهب إلى منزل والده الكائن حينذاك على بعد نحو 100 متر من منزل والدي في شارع الملك فهد بالخبر لاستذكار الدروس وحل الواجبات عصرا، رغم أنه كان يسبقني بسنة دراسية. وكان ينضم إلينا صديق عزيز مشترك للغرض ذاته هو علي عبدالرحمن الملا الذي صار لاحقا من كبار وخيرة طياري الخطوط الجوية السعودية. وقتها لم يكن أي منا يعرف إلى أين ستأخذه الأيام بعد التخرج من الثانوية وإنْ كنتُ أردد أمامهم أن وجهتي ستكون كلية الطب، فيما كان الصديق الملا يمّني النفس بالالتحاق بكلية البترول والمعادن كي يغدو مهندسا. أما البسام فكان يخفي شيئا، وظل يخفيه طويلا إلى أن أخبرنا ذات يوم أنه اتخذ قرارا لا رجعة فيه بأن يكون طيارا حربيا عبر الالتحاق بكلية الملك فيصل الجوية بالرياض. وأتذكر أننا سخرنا من قراره، بل وزرعنا رعب حوادث المقاتلات الحربية في قلبه، وقلنا له أن البسام خلقوا للتجارة أبا عن جد وليس للوظائف وإن كانت الوظيفة بمسمى طيار، وأضفنا أن «والدك لن يوافق، وهاذي شواربنا لو أقنعته» (مع أن شواربنا وقتذاك كانت بالكاد تُرى). كان رده الدائم أنه يعرف كيف يدبر أموره! وهكذا استغل غياب والده في رحلة عمل خارجية كي يقنع ولي أمره (عمه علي عبدالمحسن البسام) ووالدته بفكرة الانتساب الى كلية الملك فيصل الجوية، والتي كانت وقتذاك كلية ناشئة تشكو من قلة الراغبين في الالتحاق بها بسبب إحجام معظم خريجي الثانويات عن العلوم العسكرية إلى درجة أنها كانت تتساهل في شروط القبول، وتقدم الحوافز المادية المغرية. ولد عبدالمحسن حمد عبدالمحسن البسام في ديسمبر عام 1948 بمدينة عنيزة في القصيم لأب من عائلة البسام المعروفة التي اشتهر أفرادها بالهجرة والمغامرة والتمدد نحو بلدان الخليج والعراق والشام والهند من أجل التجارة والعلم وكسب العيش. أما والدته رحمها الله فكانت سيدة من عائلة السعدي النجدية المعروفة بعلمائها الشرعيين وقد أنجبت لزوجها 6 أبناء (أكبرهم عبدالمحسن) و5 بنات. في أواخر الأربعينات تقريبا يقرر حمد عبدالمحسن البسام وأخوه علي عبدالمحسن البسام الانتقال إلى المنطقة الشرقية بحثا عن فرص العمل التي خلقها اكتشاف النفط، فحلا مع أسرتيهما (ومن ضمنهم الطفل عبدالمحسن الذي لم يتجاوز حينها سنة ونصف السنة من العمر) في مدينة الخبر التي كانت آنذاك في بدايات نموها وازدهارها. ومن بعد فترة قصيرة، عمل خلالها حمد البسام سائق شاحنة كبيرة تابعة لشركة أرامكو النفطية، قرر الاستقالة للتوجه نحو العمل الحر. وبما أن البسام عُرفوا بالعمل في التجارة فقد كانت وجهته افتتاح محل لبيع المواد الغذائية في شارع الملك سعود بالخبر شراكة مع أخيه علي. تمر الأيام وينجح الأخوان البسام في تجارتهما ويقرران التوسع عبر افتتاح فرع إضافي لهما في الدمام، فيما كان الإبن عبدالمحسن يكبر ويترعرع في أحياء الخبر العتيقة، دون أن يتذكر شيئا عن مكان ميلاده في عنيزة. وما أن بلغ السادسة حتى ألحقه والده بالمدرسة الابتدائية الأفخم في الخبر آنذاك وهي «مدرسة الخبر الثانية» أولى المدارس التي بنتها أرامكو وتعهدت برعايتها في الخبر. غير أن عبدالمحسن لم يمض فيها سوى سنته الابتدائية الأولى، إذ لم يتكيف مع معاملة المدرسين الصارمة وأساليب العقوبة البدنية السائدة وقتها في معظم المدارس، فقرر والده في عام 1958 أن يبعثه هو وشقيقه الأصغر سنا «خالد» إلى مصر لمواصلة دراستهما على نفقته الخاصة. حيث درسا هناك مع أبناء الوجيه عبدالهادي القحطاني وابني التاجر عبدالله حمد الخليوي (خالد وحمد)، أولا في مدرسة دار الطفل بالقاهرة، ثم انتقلا منها إلى مدرسة دار التربية في منطقة الدقي. وبعدها أكمل عبدالمحسن مرحلة الدراسة المتوسطة في «المدرسة القومية الثانوية» بحي مصر الجديدة، وهي مدرسة داخلية علمته الانضباط والاعتماد على النفس. ومع تأزم العلاقات السعودية المصرية في الستينات عاد عبدالمحسن إلى وطنه ليكمل تعليمه الثانوي في مدينة الدمام لأن الخبر لم يكن فيها بعد مدرسة ثانوية. منعطفات مفصلية في حياة العميد البسام منعطفات مفصلية غيرّت مجرى حياته وأضافت إليه الكثير من العلوم والتجارب حتى غدا اليوم صاحب شخصية آسرة يرتاح لها كل من يقابله أو يتعامل معه، بل صاحب فلسفة ومبادئ في الحياة طبقها على نفسه وأبنائه. المنعطف الأول هو التحاقه بكلية الملك فيصل الجوية في عام 1968/1969 زمن قائدها السابق عبدالمحسن العنقري، من بعد خضوعه بنجاح للفحص الطبي بقاعدة الظهران الجوية. ففي الكلية المذكورة تشبعت روحه بالحياة العسكرية المنضبطة معطوفة على الجسارة والإقدام وعدم التردد في اتخاذ القرار، فضلا عن أن أجواء الكلية عرفته بشباب في عمره من مختلف المناطق السعودية، فعرف لأول مرة حجم التعدد والتنوع في بلاده. أول طائرة يقودها في حوار له مع صحيفة اليوم (16/5/2003) تحدث البسام عن ذكرياته مع أول طائرة قادها فقال (بتصرف): «كان أول قيادة لي للطائرة بعد مرور 6 أشهر من الدراسة الأرضية واجتيازنا للاختبارات النظرية، وكان أول رحلة لي على طائرة (سيسنا 172) وهي طائرة ذات محرك مروحي خاصة بالتدريب الأولي، وأتذكر أن عدد ساعات طيراني عليها كان 40 ساعة، ثم تم تحويلنا إلى الطائرات النفاثة من نوع (BAC 167) التي طرت عليها 200 ساعة. وأضاف قائلا ما مفاده أن الدراسة كانت كلها باللغة الإنجليزية خلال سنوات التعليم والتدريب ال3، وكان هناك مدرب يطير مع الطالب فترة من الزمن كي يزيل عنه القلق أو يتدخل عند ارتكاب الأخطاء، ثم يترك لك الطيران بمفردك حتى تكتسب الثقة الكاملة بنفسك. تخرج البسام من كليته في عام 1972 حاملا بكالوريوس علوم الطيران، وكان النظام يقضي أن يتوزع خريجوها بحسب تقاريرهم على 3 جهات: الطيران القتالي والطيران العمودي وطيران النقل والإمدادات، فكان نصيب البسام الطيران القتالي، وهذا في حد ذاته يشير إلى ما تميز به من جسارة وطموح وتميز. الولاياتالمتحدة هنا يأتي المنعطف الثاني الأبرز في حياته، وهو ابتعاثه إلى الولاياتالمتحدة للتدرب على الطائرات المقاتلة من نوع F 5 الأسرع من الصوت مع 3 من زملائه من الكفاءات السعودية القتالية (عبدالله الفريدي وخالد الخريجي ومشاري الهزاني)، حيث شكل ابتعاثه إلى هذا البلد المتطور بصناعاته ومجتمعاته وأفكاره وقوانينه ومدهشاته نقطة تحول جوهرية أثرت بشكل أو بآخر على حياته التالية، خصوصا أنها كانت المرة الأولى التي يسافر فيها إلى الغرب. بعد عودته من الولاياتالمتحدة تم تعيينه في قاعدة الظهران الجوية التي كان يقودها آنذاك الطيار المقاتل الأمير بندر بن سلطان، والذي ارتبط البسام به بعلاقة صداقة وطيدة، علاوة على صداقة التلميذ المتدرب بأستاذه المدرب. وبعد فترة وجيزة تم اختيار مجموعة من الطيارين المتدربين كان من ضمنهم البسام للابتعاث مرة أخرى إلى الولاياتالمتحدة (تحديدا إلى مدرسة معلمي الطيران ومدرسة المعلمين في قاعدة راندولف الجوية الأمريكية بولاية تكساس) من أجل دراسة طرق وأساليب تدريس الطيران على المقاتلات الحديثة من نوع F 5 للطلبة المتخرجين قبل توزيعهم على القواعد الجوية المنتشرة في المملكة. خلل فني وقد اشتملت هذه الحقبة من حياته أيضا على العمل في اليمن لبعض الوقت مدربا للطيارين اليمنيين، كما اشتملت على حوادث مؤسفة مثل اصطدام طائرة أحد زملائه (النقيب طيار محمد قبلان) بالأرض خلال استعراض جوي في صنعاء، وحوادث تقنية رواها لصحيفة اليوم (مصدر سابق) حيث قال (بتصرف): «أتذكر في إحدى الطلعات، وكانت رحلة مكونة من عدة طائرات، أنني أثناء الإقلاع ومحاولة رفع العجلات ارتفعت عجلتان وبقيت واحدة لم تغلق، فقمتُ بعدة محاولات لرفعها، ولكنني لم أوفق في ذلك، فجاءتنا الأوامر بالقفز في نهاية الرحلة وترك الطائرة تتحطم لأن المهم الطيار وليست الطائرة. ولكن بسبب معرفتي بالطائرة ومقدرتي على إنزالها بأقل قدر من الخسائر، طلبتُ المحاولة لإنزالها فكان القرار بالطبع عائدا لي لأنني أنا قائد الطائرة، وطلبتُ من المسؤولين في المطار وضع رغوة على المدرج لتخفيف الاحتكاك وتم إنزالها بأقل الأضرار». والبسام من جهة أخرى لعب دورا محوريا في هذه الفترة لجهة تأسيس مدرسة الأسلحة والتكتيكات الجوية، وهي مدرسة متقدمة لجهة إعداد المدرسين القادرين على النهوض بأسرابهم الجوية، ومن مهامها تعريف الطيار على الأسلحة والقنابل والصواريخ والطلقات المحمولة، وكيفية تعامله مع مقاتلات العدو، مستثمرا في ذلك ما تعلمه في مدرسة الأسلحة والتكتيكات الحربية في قاعدة «ويليامز» الجوية بولاية أريزونا الأمريكية. رحلة «ديسكفري».. رائد فضاء الاحتياطي استمر البسام يخدم بلده مدرس تدريب على مقاتلات F 5 من عام 1973 وحتى سنة 1984 التي شهدت اختياره كرائد فضاء احتياطي، فكان ذلك بداية المنعطف المفصلي الثالث في حياته. وملخص القصة أن السعودية استلمت في تلك السنة طلبا من (عرب سات) لإرسال قمر صناعي متخصص بالاتصالات يخدم جميع الدول العربية. وكانت مهمة إطلاق القمر الصناعي موكلة إلى وكالة (ناسا) الأمريكية للفضاء، فطلبت ناسا من عرب سات أن ترسل طيارا للوقوف على إطلاق القمر العربي في الفضاء الخارجي. وبما أن «وزارة البرق والبريد والهاتف» السعودية كانت آنذاك هي المسؤولة عن الاتصالات، فإنها طلبت من القوات الجوية السعودية أن ترشح لها أحد الطيارين للقيام بالمهمة المذكورة، فقامت قيادة القوات الجوية بدورها بإرسال الطلب إلى القواعد الجوية المنتشرة في المملكة لترشيح من تراه مناسبا من طياريها. وهكذا تم اختيار 10 طيارين من مختلف القواعد الجوية بناء على لياقتهم البدنية وتفوقهم الدراسي، علاوة على الأمير سلطان بن سلمان كمرشح من قبل وزارة الإعلام. وقد تم إجراء اختبارات معينة لهم قبل اختيار 3 منهم هم: الأمير سلطان بن سلمان وعبدالمحسن البسام وعبدالرحمن البلوي، إلى أن تقرر أن يكون الأمير سلطان هو من سينضم إلى طاقم المكوك الفضائي الأمريكي «ديسكفري»، على أن يكون البسام رفيقه رائد فضاء احتياطيا. في عام 1985 غادر البسام المملكة بمعية الأمير سلطان بن سلمان إلى الولاياتالمتحدة، وكانت معهم بعثة علمية من معهد البحوث بجامعة البترول والمعادن بالظهران بقيادة الدكتور عبدالله الدباغ. كان على الأمير والرائد الاحتياطي القيام بتدريبات مشابهة من تلك المتعلقة بالعيش خارج نطاق الجاذبية الأرضية، شاملة الطيران والنوم والعمل والرياضة والصلاة والمطالعة والطعام وغيرها وذلك من خلال أجهزة المحاكاة. وخلال هذه الفترة توثقت علاقة البسام بالأمير سلطان القائمة على التعاون والاحترام مذاك وحتى اليوم، والتي تخللها العديد من المفارقات والقفشات والحكايات. جملة القول أن رحلة «ديسكفري» انتهت خلال 7 أيام بنجاح، وعاد المكوك إلى الأرض سالما بعد أن أدى مهمته العلمية وساهم أيضا في تحمس الشباب السعودي لدخول كليات الطيران الحربية، ودخل الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز التاريخ كأول رائد فضاء عربي ومسلم. أما البسام فقد عاد إلى قواعده في كلية الملك فيصل الجوية كقائد لجناح التعليم. يحن إلى الطيران أكثر من الدبلوماسية في عام 1986 صدر القرار بتعيين البسام ملحقا عسكريا بالسفارة السعودية في المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا بناء على ترشيح وزير الدفاع والطيران والمفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز يرحمه الله. وهي الوظيفة التي احتفظ بها الرجل من عام 1986 وحتى إحالته إلى التقاعد في عام 1997، وهي أيضا بداية المنعطف المفصلي الرابع في حياة البسام، كونه كان من المحظوظين لأنه عاصر سفيرين من أهم السفراء السعوديين في لندن وهما الشيخ ناصر المنقور السياسي المخضرم ذو المساجلات الفلسفية المعروفة، والدكتور غازي القصيبي صاحب القامة المعروفة في الشعر والأدب والسياسة والقانون والعملين الأكاديمي والوزاري. وبحسب معرفتي بالبسام وصداقتي للدكتور القصيبي خلال سنوات إعدادي لإطروحة الدكتوراة في بريطانيا، أستطيع أن أقول بثقة أن علاقة العمل التي جمعت الأول بالثاني لسنوات طويلة في عاصمة الضباب أتاحت للأول أن يغرف من معين الثاني الكثير، ويتعلم منه أشياء لم يكن يوليها الاهتمام الكافي، وعلى رأسها القراءة المكثفة في كل العلوم وعدم الاكتفاء بالقراءة في مجال التخصص. كما يمكنني القول إن سنوات البسام البريطانية كانت هي الأغزر لجهة التعرف على علية القوم والتماهي مع ما توفره لندن من مباهج وفنون وفعاليات راقية، ناهيك عن التمسك بجملة من القيم والمبادئ مثل: إيمانه المطلق أن على الفارس أن يرتجل في نهاية المطاف بمعنى ألا يتمسك بالمنصب إلى نهاية العمر، وإيمانه بضرورة ضخ دماء جديدة في مواقع العمل بين فترة وأخرى، وإيمانه بترك الأبناء يختارون مستقبلهم بحرية بعد بلوغهم سن الرشد، وقناعته بأهمية التحاور مع الآخر من أجل تلاقح الأفكار. لايزال البسام يحن لزمنه اللندني بدليل تردده الدائم على عاصمة الضباب التي ترك فيها أجمل ذكريات العمر، وإنْ كان يردد أنه يحن إلى الطيران أكثر من الدبلوماسية. كما لاتزال تسكنه روح الشباب العاشق للترحال وتجربة ما لم يجربه من قبل، بتأثير من أفكار معلمه الأول خارج نطاق الطيران الراحل الكبير د. غازي القصيبي. والجدير بالذكر أن البسام حصل على عدد من الأوسمة منها: وسام الملك عبدالعزيز، وسام صقر الطيران، وسام تحرير الكويت، وسام درع الجزيرة، وسام الإتقان، ووسام من اليمن. بقي أن نعرف أن العميد البسام اقترن في عام 1977 بفتاة من أسرة القاضي النجدية التي استوطنت المنطقة الشرقية منذ عقود من الزمن وعُرفتْ بانتشار أبنائها في البحرينوالكويت والهند، وقد أنجبت له هذه السيدة من الأولاد بدر وفهد ومن البنات بدور ونور وسارة. * أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين صور البسام طفلا مع والده المرحوم حمد بن عبدالمحسن البسام. صور البسام خلال دراسته في كلية الملك فيصل الجوية في السبعينات. صور كاتب السطور يتوسط البسام (يسار) والكابتن علي الملا (يمين) في لقطة بدبي في مارس 2018 صور البسام يتوسط الأمير سلطان بن سلمان ورائد الفضاء الفرنسي المشارك في رحلة ديسكفري باتريك بودراي.