بلدتان صغيرتان (العيينة، وحريملاء) في قلب نجد احتضنتا الإمام محمد بن عبدالوهاب قبل أن يشد رحاله إلى الدرعية، التي ستكون فيما بعد منارة «دعوة إصلاحية» تضيء سناء أجزاء واسعة من العالم الإسلامي. ورغم أن آثار الدرعية ومساجدها وأزقتها وأسوارها تحكي بشكل أو آخر قصة الدعوة الإصلاحية التي انطلقت من هذه البلدة الصغيرة ليتردد صداها في أصقاع بعيدة بالمعمورة، إلا أنه لا شيء في مدينة حريملاء (مهد الدعوة) يدل على أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب بدأ دعوته منها أو عاش شطراً مهماً من حياته في أحد بيوتها. ويبدو أن حريملاء، المدينة المزدهرة بنبتة الحرمل، الذي يعزو سكانها المحليون سبب تسمية حاضرتهم إلى النبتة، هي الوحيدة العارفة بموقع المنزل الطيني الذي عاش فيه الشيخ محمد بن عبدالوهاب شيئاً من أعوامه، قبل انتقاله إلى الدرعية، ونفر يسير من كبار السن، حتى أن كل الذين سألتهم عن الموقع، قالوا إنه أصبح «أثراً بعد عين»، ولم يعد له أي وجود بعد إزالته، واستحال مكانه إلى مجرد أرض صلدة لا تدل من قريب أو بعيد على أنه كان يقام عليه بيت الشيخ المجدد، الذي بلغت شهرته الآفاق، وقام بعمل عظيم لتجديد الدعوة المحمدية وتنقيتها مما لحق بها من بدع وشركيات. البيت المجهول وأمام الإجابات «غير المشجعة»، صممت على الذهاب إلى حريملاء للوقوف على موقع بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب. في الحقيقة لم تكن مهمتي سهلة بأي حال من الأحوال، فكل من سألته عن بيت الشيخ أثناء جولتي على أحياء المدينة قال إنه لا يدري! التقيت أشخاصاً من كل الأعمار، وأجابوني برد واحد «لا أعرف».. وقابلت آخرين لهم دراية بالحي الذي كان يوجد به البيت لكنهم عجزوا عن تحديد مكانه بشكل دقيق. وسط سوق حريملاء استوقفت أحد الشباب لأوجه إليه نفس السؤال، ورد عليّ قائلاً: «لا أعرف، لكنني سمعت والدي ذات مرة يتحدث عن موقع بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي تم هدمه، بعد أن لاحظت الجهات المختصة أن أشخاصاً قادمين من خارج حريملاء يأتون لزيارته، فخشيت أن يتطور الأمر إلى ظاهرة لا تسلم من الشركيات والبدع التي تقوم الدعوة الإصلاحية أصلاً على محاربتها والتحذير منها». وبإرشاد من والد هذا الشاب وصلنا إلى مكان البيت المهدوم، وهي أرض مثلثة الشكل، مساحتها لا تتجاوز 300 متر مربع، وتحيط بها بيوت طينية قديمة مهترئة. وللتأكد سألت رجلاً مسناً كان يجلس على الرصيف في شارع قريب، فأجابني قائلاً: «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هدمت بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب حتى لا يزوره البعض بقصد التبرك به»، ودلني على موقعه، وهو نفس المكان الذي أوصلني إليه الشاب. وقال المسن: «على هذه الأرض كان يوجد بيت الشيخ المجدد قبل أن يهدم، كان مبنياً بالطين اللبن وصغيراً، وشهد قبل هدمه عملية ترميم من قبل الإدارة العامة للآثار والمتاحف بوزارة المعارف (سابقا)»، مضيفاً «منذ أن وعينا الدنيا عرفنا أن هذا بيت الشيخ، ولم يكن هناك أي شيء غير اعتيادي فيه، وهو لا يختلف عن البيوت المجاورة له، بل يشبهها إلى حد كبير، لكن قبل نحو 10 سنوات لاحظنا تردد كثير من الناس عليه، والتقاط صور فوتوغرافية له، إلى أن فوجئنا ذات يوم بهدمه ونقل أنقاضه إلى خارج المحافظة، وعرفنا فيما بعد أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي تولت أمر إزالته». موقع البيت ووفقاً لشهادات متطابقة، يقع بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب وسط مدينة حريملاء جوار السوق، وتبلغ مساحة القصر الإجمالية نحو 275 مترا مربعا، وهو يطل من الناحية الشرقية على شارع رئيسي بعرض 12 مترا، ومن الناحية الغربية على شارع بعرض 3.5 متر حيث المدخل القديم للقصر، أما الناحية الجنوبية فتطل باستدارة على الشارعين المذكورين، أما من الناحية الشمالية فمبانٍ طينية قديمة متهدمة. بيان الهدم لم أكتف بما قاله هذا المسن، بل قمت ب«التنقيب» في الأرشيف عن أية وثائق تدل على سبب إزالة بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وعثرت على بيان لمفتي عام المملكة سابقاً الشيخ الراحل عبدالعزيز بن باز، معلقاً على خبر نشرته الزميلة «الرياض» في عددها الصادر في 21/10/1412، تحت عنوان «ترميم بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بحريملاء». وقال الشيخ ابن باز في بيانه «الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد فقد نشرت صحيفة الرياض في عددها الصادر في 21/10/1412 مقالاً تحت عنوان «ترميم بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بحريملاء» وذكر أن الإدارة العامة للآثار والمتاحف أولت اهتماماً بالغاً بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ محمد بن عبدالوهاب «رحمه الله» في حي غيلان بحريملاء، حيث تمت صيانته وأعيد ترميمه بمادة طينية تشبه مادة البناء الأصلية، إلى أن قال: وتم تعيين حارس خاص لهذا البيت... إلخ. وقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور، ورأت أن هذا العمل لا يجوز، وأنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد «رحمه الله» وأشباهه من علماء الحق، والتبرك بآثارهم والشرك بهم، ورأت أن من الواجب هدمه وجعل مكانه توسعة للطريق سداً لذرائع الشرك والغلو وحسماً لوسائل ذلك». وصف البيت قبل هدمه الدور الأرضي مكون من مجلس وسقفه محمول على ثلاثة أعمدة مبنية بالحجر، وهو مكون من جذوع أشجار الأثل، بينها فروشات حجرية، وهي الحجرة الوحيدة بالمنزل التي استعملت الفروشات الحجرية في تسقيفها، وتجاورها حجرة أخرى سقفها محمول أيضا على عمود مبني بالحجر، كما توجد حجرة صغيرة مجاورة للباب القديم، وقد استحدثت فيما بعد؛ إذ إن العقد الحجري للباب الأصلي ما زال موجودا في الحائط الغربي منها، ووسط المنزل هناك ثلاثة أعمدة مبنية بالحجر للمساعدة في حمل سقفه، إضافة إلى الحوائط الحاملة، وجميع الأسقف من جذوع خشب الأثل، وجعل فيما بينها أغصان شجرة الأثل وجريد النخل، كما يوجد بوسط القصر سلم مكشوف يصعد به للدور الأول. فيما يتكون الدور الأول من حجرة محمولة على ثلاثة أعمدة حجرية بنيت فوق أعمدة حجرة الطعام بالدور الأرضي، وأمامها سقيفة محمولة على عمودين حجريين أيضا، وحجرة صغيرة بالجهة الغربية، وأمامها حجرة دون سقف تعلو حجرة المجلس بالدور الأرضي، ولها منور صغير (باقدير) له غطاء عبارة عن ضلفة خشبية تفتح وتغلق حسب الحاجة، وقد أضيف في الجهة الشمالية غرفة في الجزء شمال الحائط، ولها مدخل بالواجهة الشرقية وهو من نوع المداخل المنحنية (شابورة)، يجاورها فناء مكشوف تطل عليه سقيفة محمولة على ثلاثة أعمدة حجرية قصيرة توصل إلى دورة مياه وحجرتين صغيرتين متداخلتين ودهليز يوصل إلى فناء المنزل الأصلي. ويعلو هذا بالدور الأول مقعد مكشوف أمام حجرة المجلس تعلو جداره عرائس، ولحجرة المجلس الجديدة بابان وشباكان بالحائط الشمالي، وجوار المجلس من الناحية الغربية دهليز يوصل إلى الدور الأول بالمنزل القديم عبر درجتي سلم لتفادي فرق المناسيب بين البناء القديم والبناء المستحدث. العيينة.. وهجرة القرن وفي العيينة (مسقط رأس الشيخ محمد بن عبدالوهاب)، لا يختلف الحال كثيراً عن حريملاء، بيد أن أحد أعيان العيينة يعزو عدم وجود آثار كثيرة للشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الانقطاع الطويل الذي دام 100 عام هجرت فيها العيينة من قبل أهلها بعد أن غزاهم «الدباء» فدُمرت المزارع وجفت الآبار وانتشرت الأوبئة والأمراض، ولم تشهد البلدة طيلة هذه السنوات أي نوع من أنواع الحياة، وبقيت بيوتها مجرد أطلال مهجورة إلى أن وحد الملك المؤسس عبدالعزيز المملكة، فتوجه وفد من أبنائها إليه طالبين منه إعادة إحياء أملاك آبائهم. ويضيف: إنه بسبب هذا الانقطاع لم يُعثر على أية آثار أو مقتنيات للشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته سوى بناء صغير يقال إنه كان يقيم فيه. أحفاد الدعوة أخذنا أحد رجال العيينة إلى غرفة طينية صغيرة ملحقة ببيت من الطين يحيط بها سور طيني متهدم ويحيط بالسور شبك، وأشار بيده إلى تلك الغرفة الآيلة للسقوط قائلاً «هنا كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب يقيم ويقضي بين الناس ويتحدث إلى أتباعه من أنصار الدعوة»، مضيفاً «منذ أن كنت صغيراً كان والدي يتحدث عن هذه الغرفة باعتبارها مقر الشيخ خلال سنوات إقامته في العيينة.. وقد أقيم شبك على البيت لحمايته من العبث». وخلال جولتي سألت عددا من أبناء العيينة عن خلو المحافظة من أية إشارة للشيخ محمد بن عبدالوهاب، فلا توجد باسمه مدرسة أو شارع أو مكتبة أو أي شيء من هذا القبيل، فأجابوا بقولهم: «نعترف بأن في هذا تقصيراً لا مبرر له، وينبغي أن تفكر الجهات المعنية في هذا الأمر بشكل جدي، فلا يعقل ألا يوجد أي معلم يخلد اسم وذكرى الشيخ المجدد في المحافظة التي انطلقت منها دعوته». مطالبين بإنشاء مركز ثقافي إسلامي كبير باسمه. قبل أن يتسرب إلينا اليأس من العثور على أي معلم أو منشأة تحمل اسم الشيخ المجدد، دلنا أحدهم على مسجد وسط المحافظة أطلق عليه اسم مسجد الدعوة، نسبة لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولكنه أقر بأن ذلك ليس كافياً ولا يتناسب مع قيمة ودور هذا الشيخ الجليل.