منذ بدء الخليقة، يظل الاقتصاد «شاغل» الناس. لكن السياسات الاقتصادية الناجحة -على مستوى الفرد والدولة- هي من «تُشغِّلهم». والسياسات الاقتصادية بشكل عام تأتي لتصحيح مسار معين أو لترسم إستراتيجية اقتصادية جديدة أو لإصلاح الاقتصاد، وربما جاءت لتغيير ثقافة اقتصادية مُتجذرة. والأخيرة عادةً تكون أكثر تعقيداً لأنها ترتبط بالثقافة السائدة والاجتماع البشري والسلوك الإنساني. وكل الحالات تذهب تقريباً في اتجاه أنه لا توجد سياسات اقتصادية مُثلى يكون الجميع راضياً عنها أو متفقاً حولها، ولكن توجد سياسات اقتصادية على مستوى جيد تخدم الصالح العام/ المصلحة العامة والتي تعني مصلحة الأغلبية، حتى وإن تضررت القلة. والمُشرِّع عموماً يُفترض أن يحتكم إلى المتوسطات الحسابية -إذا كان بالإمكان ذلك- للحكم على نجاح هذه السياسيات من حيث النظر في آثارها ونتائجها. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن المُحصِّلة والأثر يأخذان وقتا طويلا وقد تشتمل السياسة الاقتصادية على معايير موضوعية يسهل قياسها وأخرى غير موضوعية صعبة القياس، وربما تضمنت مقايضات بين معاييرها أو قد تبدو وكأنها تحمل تناقضاً بينها للوهلة الأولى. ولهذا فإن عامة الناس يتحدثون عن إرهاصات مبدئية -غالباً سطحية-، بينما يتحدث الاقتصاديون عن مؤشرات -غالباً نظرية-. لكن جميعها تظل افتراضية واستباقية ولا يتم الحكم على صحة هذه الافتراضات إلا بعد سنوات. يقول أحد المُفكرين إن السياسات الاقتصادية دائماً لديها مخالب، وإن الذكاء هو في كيفية التعامل مع خدوشها وليس محاولة منعها. ومن أطرف ما قيل كذلك، أن المواطن العقلاني هو من يعمل على أن تلتئم خدوشها بأسرع وقت وبأقل تكاليف ممكنة. ولعل هذا يتطلب امتلاك ما يسمى بمهارة التفكير التكيُّفي adaptive thinking وهي مهارة تعني أنه في العصر الرقمي المُتسارع وشديد التغير، فإن الإنسان بشكل عام والمواطن بشكل خاص يجب أن يكون قادراً على تعلُّم أشياء جديدة بسرعة وكفاءة؛ بمعنى أن يكون قادراً على التكيُّف باستمرار مع الظروف المتغيرة والمحيطة به. هذه الظروف تشمل من ضمن أخرى السياسات الاقتصادية والتغييرات الاجتماعية والتقنية. وبالتالي فإن التكييف هذا ليس محصوراً فقط على إنسان الصحراء بل يشمل إنسان المدنية ربما بشكل أكبر. فإنسان الصحراء يعيش ليتكيّف، بينما الإنسان المدني أو الرقمي يتكيَّف ليعيش. يحفل التاريخ بالعديد من السياسات الاقتصادية الناجحة أو الفاشلة على حد السواء، فهناك مقالات عديدة عن أفضل سياسات اقتصادية في التاريخ، ومقالات عن أسوأ سياسات اقتصادية وقعت. ولعل من أطرفها ما حدث في فترة موروماتشي (1336 إلى 1573)، حيث اعتمدت سلالة مينغ الحاكمة في الصين سياسة شراء واستيراد السيوف من اليابانيين بهدف حرمان «البرابرة» المزعومين الذين يحتلون بعض الجزر الصينية من أسلحتهم. كان رد الفعل المبهج لليابانيين على غرار الإعلان التجاري الشهير لدوريتوس- أحد أشهر الرقائق المقلية في العالم: اشتر كل ما تريد؛ ونحن سوف نصنع أكثر. هذه الحادثة على طرافتها، تعطي دلالة على ارتباط الاقتصاد بالسياسة، وعلى ارتباط الاقتصاد بالسلوك وبالتالي أثره في مسيرة الأمم. ولعل هذا يفسر حصول ريتشارد ثيلر بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2017 بسبب أعماله الرائدة في الاقتصاد السلوكي القائم على دمج الاقتصاد مع علم النفس. Dr__Melfi@