منذ فجر التاريخ وجد الإنسان الأول نفسه على الأرض ضمن جماعات تمارس القنص من أجل الحصول على الطعام، ثم انتقل إلى الرعي عندما استطاع أن يروض الحيوان، ثم تطور إلى الزراعة عندما استطاع أن يربط بين تغير الفصول وظهور المحاصيل في الأرض ومع معرفة الزراعة ثم الصناعة ظهرت الضرورة للاستقرار ومعه ظهر الانتماء إلى المكان والجماعة وظهر مفهوم الوطن ومن رحم الوطن ظهرت الدولة. في كل تلك البيئات كان الإنسان يحرص على العيش ضمن جماعة، والحالات النادرة المذكورة عبر التاريخ التي اضطر للعيش فيها وحيداً هي بمثابة أساطير مثل حي بن يقظان الرواية التي ألفها ابن سينا والتي أعيدت صياغتها في الغرب في رواية روبنسون كروزو للكاتب دانيال ديفو بعد ذلك بقرون والتي تحكي يوميات إنسان عاش على جزيرة منعزلة لا بشر فيها بعد أن غرقت السفينة التي كان على متنها ولم ينجُ منها أحد غيره، وهي رواية تصور بؤس الإنسان في حال ابتعاده عن وطنه وافتقاده جماعته. من طبيعة الإنسان أن يعيش ضمن فضاء اجتماعي وسياسي جامع يمده بالأمن والطمأنينة، ويواجه معه التحديات والمخاوف، يبدأ الفرد بتكوين أسرته الصغيرة والأسر تشكل القبيلة، والقبائل تشكل الوطن، والوطن محيط مادي ووجداني يتعمق في النفس مع الزمن، كما يتطلب مع الوقت حمايته وتنميته وتنظيمه، فظهر ذلك الإطار السياسي الذي تشكل عبر تجارب إنسانية طموحة، ونضال مرير بهدف حفظ الوطن أفراداً ومقدرات ذلك الإطار هو «الدولة». ومفهوم الوطن أوسع من مفهوم الدولة لكنه لا غنى لأحدهم عن الآخر فإذا كان الوطن بمثابة لوحة جميلة فإن الدولة بمثابة الأطار الذي يحميها، لقد تعمقت فكرة الوطن في الوجدان الإنساني أولاً وصقلها التعرض للتهديدات المختلفة الطبيعية منها والبشرية، كما تعلقت العقول بالدولة مع نمو الوعي، وأصبحت الدولة لا غنى عنها ولا بديل لها، والدولة كما اتفق على تعريفها هي «كيان ذو اختصاص سيادي يؤسسه تجمع بشري في نطاق إقليمي محدد يمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة»، بمعنى أنه يمكن القول إن الوطن هو كيان ثقافي والدولة هي كيان سياسي. والإنسان الطبيعي لا يستطيع الانسلاخ من بيئته وعائلته التي يحبها أو قبيلته «وجعلناكم شعوباً وقبائل...» بنص القرآن الكريم والمدلول واضح في تقديم القرآن لكلمة الشعوب على كلمة القبائل، أي أن الإنسان يحب الجذر الجيني الذي جاء منه كما يحب الامتداد الاجتماعي الأرحب، وهذان الفضاءان يضمهما الوطن تحت جناحيه. دعا الإسلام إلى الاتحاد، ولا أجد أفضل معنى لتجسيد تلك الفكرة إلا التكتل تحت راية الدولة القوية الحامية للعقيدة والأخلاق والمقدرات، إن وطننا الغالي تحت راية التوحيد يقدم أغلى العطايا والهبات وعلى رأسها حماية المعتقد والدم والعرض والمال ومميزات أخرى قد لا ندركها نظراً لاعتياد وجودها فهل نظرنا فيما يحدث حولنا من شتات وخراب وفقدان لكل مقومات الحياة؛ بسبب جماعات دموية معادية لكل القيم الإنسانية تحركها أصابع خارجية تتبنى أجندات تخريبية تقاتل الجميع وتتقاتل فيما بينها وتهدد الحاضر والمستقبل: لذا وجب على كل عاقل ذي لب رشيد أن يقدم مصلحة وطنه على جميع المصالح الأخرى وأولاها مصالحه الشخصية، وعندما يتوفر هذا الحس الوطني لدى شريحة عريضة من المجتمع يبقى الوطن محمياً بقدرة الله عز وجل ثم تضحيات وحب أبنائه، حفظ الله الوطن.