تحل الموسيقى ضيفا دائما في جدول «القضايا المثيرة للجدل» بين التيارات الفكرية في المملكة، واستطاع الفريق المناهض للموسيقى تغييبها تعلماً وممارسة إلى حد كبير منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وهذا ما يؤكده الملحن طلال باغر. بيد أن العامين الماضيين شهدا تحولاً نوعياً، إذ أعلن أكثر من فرع لجمعية الثقافة والفنون إقامة دورات تدريبية للعزف على آلات الموسيقى في مقراتها وبشكل علني. ومع التغييب، ظل تعلم العزف على الآلات الموسيقية خلف الأبواب المغلقة لفترة طويلة، بعد أن كانت حصص الموسيقى تزاحم جدول طلاب مدارس الثغر. وظل المشهد العام للموسيقى في السعودية يشكل حالة جدلية دائمة، سواء على مستوى الحفلات العامة أو تدريب الراغبين في العزف على الآلات الموسيقية، إلا أن التغييب للفنون لم يردع العديد من الطاقات السعودية المدفونة، عن إطلاق العنان لموهبتها، إذ أظهرت مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الأصوات الجيدة، والعازفين المهرة، على مستوى الشباب من الجنسين، ومنحتهم بقعة ضوء كانوا يأملون بها منذ أمد بعيد. وشكل هذا الظهور ارتفاع أصوات جماعية تنادي باحتضان ودعم هذه المواهب، خشية انقراضهم وإحباطهم كما حصل مع آخرين، في وقت لا يزال الفن يعيش على قارعة الطريق في حياة السعوديين، فالبلاد بلا معاهد وأكاديميات للفنون. وسيط بين العازف وطلابه.. «دكاكين» لبيع الآلات الموسيقية شراء آلة موسيقية في السعودية، أسهل بكثير من البحث عن معهد أو مركز متخصص في تعليم الموسيقى أو التدريب على العزف على إحدى هذه الآلات. ورغم تناثر المحلات التجارية لبيع الآلات الموسيقية في المدن السعودية، إلا أنها غالباً ما تكون راكدة، كون زبائنها يعرفون جيداً عما يبحثون، وتربطهم علاقة موسيقية رفيعة مع أصحاب تلك المحلات. «أستطيع تمييز الزبون الذي تطأ قدمه لأول مرة محلا لبيع الآلات الموسيقية»، هكذا يسرد أبو سامي الذي امتهن بيع الآلات الموسيقية في السعودية منذ عقود قدرته على معرفة زبائنه، ويشير إلى أن الكثير من الزبائن الذين يزورون المحل لأول مرة يترددون كثيراً عند شراء آلة موسيقية، «إذ نمضي وقتا طويلا في الحوار عن الفائدة المرجوة منها، في ظل عدم تمكنه من التعلم عليها»، منوهاً إلى أن بعض العازفين الذين يمتلكون قدراً من الخبرة والاحترافية، يتركون أرقامهم عارضين خدماتهم لتدريب من يرغب ذلك من المبتدئين. وتدربت أجيال من الشباب في منازل كبار الملحنين السعوديين كالراحل سامي إحسان، وغازي علي، وسراج عمر، بحسب شهادة مدير جمعية الثقافة والفنون بجدة السابق عبدالله باحطاب. وأكد باحطاب الذي يدير الأنشطة الطلابية في جامعة الملك عبدالعزيز بعد تركه جمعية الثقافة والفنون في 2012، اعتماد كثير من الموسيقيين على السماع في تعلم الموسيقى، «كثير من الملحنين الكبار لا يعرفون قراءة النوتة». واسترجع محاولات فريقه عندما كان يدير الجمعية في تفعيل دورات تدريبية للعزف على الموسيقى: «كنا نقيم دورات بخجل وعلى استحياء كون هناك تحفظات كبيرة من جهات عديدة منها رسمية»، معتبراً أن الوقت الحالي يشهد تقدماً كبيراً في الفنون بشكل كامل. فيما لا يزال عدد من العازفين يقدمون دروسا خصوصية في التعليم على عزف الآلات الموسيقية في منازلهم. ويعتقد باحطاب أن إنشاء معاهد متخصصة يشرف عليها أكاديميون ستنقل الموسيقى إلى آفاق أرحب. «مدربة بيانو».. من «الدوائر المغلقة» إلى المسارح لم تتوقع هدية شيخ التي درست الأحياء في جامعة الملك عبدالعزيز وقوفها على المسرح وتقديم دورات عزف بيانو، بيد أن تعلقها بالموسيقى دفعها منذ الصغر لتعلم الموسيقى في بلدان عربية، على يد عازفين محترفين، لتحصل أخيراً على شهادة علمية في الموسيقى وقراءة النوتة الموسيقية من أحد المعاهد العالمية (وهي أشبه بشهادة الدبلوم). وتحكي المدربة هدية شيخ القائمة على دورة عزف البيانو في جمعية «فنون جدة» أخيراً ل«عكاظ» قصتها مع الموسيقى قائلة: «بدأت التدريب منذ أربعة أعوام، في دائرة مغلقة بشكل خاص مع أقاربي وأصدقائي، وظلت هذه الدائرة تكبر يوماً بعد يوم، تلاها التحاقي قبل عامين بالجمعية، مشاركة معهم في بعض الأنشطة، ولم نبدأ التدريب بشكل رسمي إلا أخيراً عقب حصولنا على التراخيص اللازمة لذلك»، منوهة إلى أن دورة «العزف على البيانو» سبقتها دورة لتعليم المقامات الموسيقية للسيدات والأطفال. وعن دورة البيانو أشارت إلى أن «الإقبال أكبر من توقعاتنا.. حددنا 12 مقعدا للدورة مقسمة بين الأطفال والسيدات، ليتسنى الخروج بأكبر فائدة ممكنة، رغم ذلك استمر تهافت الطلبات علينا لزيادة المقاعد، وما زالت تردنا اقتراحات بعمل نسخة ثانية من الدورة»، وبينت أن الدورة أتاحت لهم التعرف على فتيات سعوديات حاصلات على شهادات في الموسيقى من لبنان ومصر والأردن. وأضافت: «الدورة كانت محددة لمدة أربعة أيام، واضطررنا أن نضيف يومين، لمتابعة مشاريع المتدربين، وركزت الدورة على تعليم المستوى الأول في قراءة النوتة الموسيقية والعزف على البيانو، من ناحية قراءة المدرج العلوي والمفاتيح الموسيقية والعلامات الموسيقية»، لافتة إلى اعتمادها على التركيز في تدريب الأطفال على قراءة نوتات أغاني الأطفال، خلاف السيدات اللاتي يعزفن على نوتات معروفة عربياً، «وسنستمر في متابعة المتدربين بعد انتهاء الدورة بشكل أسبوعي، لمساعدتهم وتطوير أدواتهم، حتى يتمكنوا من الانطلاق في هذا المجال بمفردهم، وبالتأكيد سنعمل على الاستفادة من قدراتهم في مشاريع الجمعية المستقبلية». ترى أن أهمية مثل هذه الدورات تتركز في كونها هواية جيدة للسيدات في السعودية، إضافة إلى افتقار المسرح النسائي بشكل كبير لكثير من المواهب النسائية في أكثر من مجال، من ضمنها الموسيقى، «ولا يستقيم المسرح دون الموسيقى، فهناك رابط روحي بينهما، ليظهر العمل المسرحي بأفضل شكل ممكن. وتقوم لجنة المسرح النسائي في جمعية «فنون جدة» بجهود حثيثة لدعم الحركة النسائية في المسرح، وإعطاء المخرجات والممثلات والموسيقيات السعوديات مساحة أكبر للعمل والإبداع». «فنون جدة»: البيانو أول الغيث صاحب إعلان جمعية الثقافة والفنون في جدة دورات موسيقية للفتيات السعوديات الراغبات في تعلم الموسيقى، وفتح المجال لهن لتعلم العزف بمقرها، صدى واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، بين معارض ومؤيد لتلك الخطوة الجريئة بشكل علني. وفي وقت دأبت جمعيات الفنون بمختلف فروعها في المملكة على المبادرات الفردية في تبني مشاريع مماثلة، يطالب مراقبون ب«مأسسة» العمل في جميع فروع الجمعية تحت مظلة واحدة، وبإستراتيجية واضحة المعالم لدعم الحركة الموسيقية في البلاد، والقفز على مرحلة «المبادرة الفردية» بعمل أفقي يستهدف جميع مناطق المملكة، بنفس القدر من النشاط والاحترافية في بعض المناطق، لإعطاء جرعة حياة للهواة المنسيين خلف الجدران المغلقة. من جهته، أكد نائب مدير فرع جمعية الثقافة والفنون بجدة مدير الأنشطة فيصل الزيات ل«عكاظ» كثافة الإقبال على الدورة، مستشهداً برفضهم عددا كبيرا من الراغبين في الالتحاق بالدورة كون المقاعد محدودة، وإرجاء تسجيلهم إلى نسخ قادمة من الدورة. وقال إن ل«دورة البيانو» جمهوراً متعطشاً لتعلم العزف على آلات أخرى مثل العود والكمان، مشيراً إلى أن خطة الجمعية القادمة هي إطلاق دورات متخصصة للسيدات للعزف على آلالات مختلفة غير البيانو، من قبل مدربات سعوديات «وجدنا لديهن شهادات عليا في الموسيقى من مصر ولبنان وغيرها من الدول، عرضن خدماتهن على الجمعية لتقديم دورات مشابهة». ونوه بأن إقامة دورات بهذا الزخم تتطلب إصدار التراخيص اللازمة من الجهات المعنية، وتجهيز منهج الدورة وآلية العمل الخاصة بكل دورة، متوقعاً إطلاق الدورات القادمة في فصل الصيف عقب شهر رمضان القادم، ل«عدم رغبة الجمعية في إقامة أنشطة موسيقية في الشهر الفضيل، بعد التنسيق مع المدربات والتأكد من جدولهن ووجودهن في المملكة حينها». وأكد الزيات أن صيف «فنون جدة» سيكون زاخراً بالأحداث الفنية المختلفة، إذ من المتوقع إقامة أمسيات موسيقية عامة للرجال، «ونحن بصدد التحضير لها وأخذ الموافقات اللازمة»، لافتاً إلى أن الجمعية تعيش مرحلة تطور تظهر جلياً من خلال مشاريعها المتنوعة. وأضاف: «لجنة المسرح النسائي والطفل تعمل بشكل أكثر فاعلية في الوقت الحالي، إذ توفر العديد من الدورات مثل دورات الخط والرسم والتصوير وتنسيق الزهور، إضافة إلى فعالية (ساعة فن) النسائية الخالصة، وتعتزم الجمعية بالتعاون مع إحدى الشركات في عمل مسرحية نسائية من بطولة ممثلات سعوديات من جدة ومناطق سعودية أخرى قريباً».