عام مضى بلا أنفاس الدكتور عبدالرحمن الوابلي، ودون أن يخطفه الغياب من ذاكرة الشغوفين بكتاباته والمنتمين لأسلوبه، بعد أن رسخ فيها بإرثه الأدبي الجريء وطرحه العميق الذي حرك به الساكن من القضايا واسأل أحبار الناقدين والناقمين والمعجبين على حد سواء، فالقضايا التي اعتاد الوابلي إثارتها في حياته لا تحتمل التماس مع حدود التمييع أو اللا مباشرة، فكان نقده جريئاً إلى حد جعله أحد المؤثرين في الإعلام والمجتمع. الوابلي الذي فقدناه في الخامس والعشرين من مارس سنة 2016، كان قامة من إعلامها في مجال التأريخ والكتابة الصحفية الجريئة والتأليف الدرامي ممن يصعب تعويضهم لجهة قول الكلمة الشفافة الصادحة، والتفاعل الجاد مع هموم المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والوقوف في وجه التيار المتشدد الساعي لفرض أجنداته الظلامية العقيمة، لم يكن الدكتور عبدالرحمن بن محمد بن يوسف الوابلي (أبوجهاد) مجرد كاتب عادٍ طرق أبواب الصحافة السعودية من أجل الشهرة والانتشار أو المال عبر كتابة مقال هنا وعمود هناك. وإنما كان من الذين نذروا أنفسهم للإصلاح والارتقاء بمجتمعاتهم، وبذر بذور الفكر التنويري العقلاني فيها والتصدي بالمنطق والعقل لما لا يقبله العقل في القرن الحادي والعشرين من طروحات وآراء التيار المتشدد المتجهم. وعلى الرغم من نيران التكفير والإلحاد التي أطلقت عليه من كل حدب صوب، والانتقادات الشرسة التي وجهت إليه عبر المنابر الدينية ووسائل الإعلام القديمة منها والحديثة، إلا أنه صمد وقاوم ومضى دون تراجع يسانده ويدعمه طيف واسع من الجمهور السعودي، ممن وجدوا فيه وفي أعماله الدرامية النقدية وكتاباته الصحفية لسان حالهم، بدليل ما أثاره نبأ وفاته من حزن في صفوفهم، وما تسبب فيه من تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي لم يحظ بها أحد قبله. نشأته ومسيرته العلمية: ولد الوابلي بحي الصناعية في مدينة بريدة بإقليم القصيم في العاشر من أكتوبر 1958، ابن عائلة نالت قدرا من العلم. فوالده كان يقرأ ويكتب ويعرف شيئا من الإنجليزية، ووالدته كانت مغرمة بالنشاط الاجتماعي ضمن دائرة الأهل والأقارب، وأعمامه كانوا يعملون في التدريس. ولهذه الأسباب كان بيت العائلة لا يخلو من الصحف والمجلات والكتب السعودية والمصرية التي فتح الوابلي عينيه عليها منذ سنواته المبكرة. وبعد مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية التي أتمها جميعها في مسقط رأسه ببريدة، التحق بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم التي حصل منها في عام 1982 على درجة البكالوريوس في التاريخ الإسلامي. ثم ذهب إلى الولاياتالمتحدة لإكمال تعليمه، فنال درجة الماجستير في التاريخ الأوروبي من جامعة مدينة إيمبوريا الحكومية Emporia State University بولاية كانساس في الغرب الإمريكي الأوسط. وحينما عاد إلى الوطن التحق بكلية الملك خالد العسكرية بالرياض وعمل بها معيدا، قبل أن يحصل منها في عام 1997 على بعثة دراسية إلى الولاياتالمتحدة لنيل درجة الدكتوراه، التي نالها بالفعل من جامعة شمال تكساس University of North Texas في التاريخ العسكري. لم يكتف الرجل بتلك الدرجات الجامعية العالية، فأضاف إليها درجة دكتوراه ثانية في التاريخ العربي، نالها هذه المرة في عام 2000 من جامعة بلاده الأقدم «جامعة الملك سعود» بالرياض. وبسبب هذه التخصصات التاريخية حظي الوابلي بعضوية عدد من الجمعيات مثل: الجمعية التاريخية السعودية، الجمعية التاريخية الأمريكية، جمعية التاريخ العسكري الأمريكي. الغربة وعلاقتها بشخصيته خلال عمله الأكاديمي في كلية الملك خالد العسكرية بالرياض: مارس الوابلي الكتابة الصحفية من خلال صحيفة الوطن السعودية، وحاضر في الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية، قبل أن يقتحم مجال كتابة الدراما التلفزيونية بتأليف العديد من حلقات مسلسل «طاش ما طاش» للفنانين ناصر القصبي وعبدالله السدحان، ومعظم حلقات مسلسل «سيلفي» لناصر القصبي، وهما مسلسلان زلزلا الدنيا ووضعا الدراما السعودية على سكة الانتشار بثبات، كما هو معروف. ويمكن القول إن سنوات دراسة الوابلي في الولاياتالمتحدة منحته أشياء أخرى غير الشهادات الأكاديمية. ففيها تعززت لديه بعض القيم النبيلة التي رافقت شخصيته منذ صباه مثل قيم «الصدق ومحبة الناس ومساعدة ذوي الحاجة» بحسب تعبير أخيه عبدالله الوابلي، الرئيس السابق للجمعيات السعودية التعاونية. كما أن التغرب في تلك البلاد البعيدة المتقدمة في علومها وقوانينها ومظاهر حياتها العصرية ساهمت في احتكاكه بأطياف من الثقافات المختلفة، وبالتالي كان لهذا الاحتكاك والتمازج والمعايشة دورا في تكوين شخصيته المستقلة برأيها، المعتمدة على العقل في تشخيص الأمور، القادرة على إقناع الآخر المختلف بالمنطق والحوار، لا بالشتم والتخوين والتكفير. معاركه مع المكفرين والمتشددين: لم يكن غريبا أن يحدد الوابلي عناوين معاركه بنفسه، وأن يختار لها السلاح المناسب أيضا ممثلا في الكلمة الصريحة المباشرة والعمل الدرامي الهادف إلى غرس قيم نبيلة مثل الوحدة الوطنية وتجاوز الصراعات الطائفية والمذهبية والقبلية ونبذ الإقصاء والكراهية، أو الهادف إلى الدفاع عن حقوق المرأة في وجه التسلط الذكوري والتهميش المجتمعي، أو الساعي إلى تسليط الضوء على أهم التحديات التي تواجه المجتمع السعودي. وكان من الطبيعي لمن يحمل هكذا لواء أن يتهم ب «الليبرالية»، التي هي مرادفة للإلحاد في عرف المتشددين والظلاميين، لكن الوابلي كانت لديه شجاعة الاعتراف بأنه ينتمي للتيار الليبرالي، مثلما كان يملك شجاعة انتقاد هذا التيار. وهكذا خاض الرجل المعركة تلو المعركة من فوق صفحات الجرائد وعانى طويلا من أذى ذوو القربى وأقلامهم المسمومة، لكنه كان مبتسما على الدوام، كما لو كان مقتنعا بأن أفكار معارضيه إلى زوال مع مرور الأيام، وأن الذي سيبقى هو الوطن. فقد كان مقتنعا أنه يعمل من أجل خير وطنه وأمنه وسعادة أهله وناسه، بدليل أن آخر تغريداته قبل وفاته وردت فيه عبارة: «حفظ الله وطننا من كل مكروه». صراحة أنيقة وجدال راق: كان الوابلي عفيف اللسان لا يطعن في ذوات مخالفيه ولا يجرحهم بألفاظ نابية. وبعبارة أخرى، كان واضحا صريحا إلى أبعد الحدود مع الالتزام بأدب الجدال الراقي. و«كان رحمه الله يدعو لمن يسيء إليه بالرحمة والهداية، ويتمنى له سعة البصيرة، مرددا دعاء: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». غير أن الطرف الآخر ما كانت نفسه التواقة للانتقام أن تهدأ دون الدعاء عليه. فهذا هو منهجه المتبع مع كل مخالف له في الرأي، إلى حد أنه لا يتردد في قول أن مرض فلان أو علان من خصومه، ومن ثم وفاته هو بسبب دعائه المتواصل عليه، كما لو أن «مفاتيح الموت والحياة معلقة في بيوتهم، والمرض والشفاء في جيوبهم» بحسب تعبير الزميل محمد الساعد في "عكاظ" (28/3/2016). لقد فعلوا ذلك مع الراحل الكبير غازي القصيبي ومع الفنان طلال مداح في السعودية، ومع الدكتور أحمد الربعي والدكتور أحمد البغدادي في الكويت، بل غردوا على مواقع التواصل الاجتماعي شامتين في موتهم. وهذا ما فعلوه أيضا مع الوابلي بعد وفاته حينما أقدم داعية متشدد على كتابة تغريدة يدعو فيها عليه ويستنكر الترحم عليه بدلا من أن يدعو له بالمغفرة، الأمر الذي استنكره مثقفون سعوديون كثر، ووصفوه بالفجور في الخصومة والتعدي على حرمة الميت. 20 مؤلفاً أرفد بها المكتبة السعودية خلال مسيرته العملية: استطاع الوابلي بما حظي به من علم واطلاع أن يرفد المكتبة السعودية بنحو 20 مؤلفا في التاريخ، والسياسة، والإرهاب والتطرف، والأخلاق والتربية، وغيرها. يشهد على ذلك عناوين مؤلفاته التي منها: من أولويات النصر العسكري، الأسباب في كره معارض الكتاب، لصالح من يجير التشيع العربي لإيران، تسارع التصارع في سورية، نحو هيئة وطنية لمكافحة التطرف والإرهاب، الطائفية والأخلاق الرياضية، لماذا ينتصر الإرهاب، صناعة الانتحاري في 6 أشهر، الاحتقان بين القيصر والسلطان، ما الذي يدير علاقات القوى العظمى المصالح أم الأخلاق، انتفاضة برغم الحروب، مشارف ربع الساعة الأخيرة في سورية، أسباب التدخل العسكري الروسي في سورية، منطق الوباء الطائفي، الدولة العربية وتهافت خطابها المدني، الثقافة القنفذية، التطرف وصناعة الوهم والأعداء، نحو سداسية خليجية للتفاهم مع إيران. «طاش» و«سيلفي» جرعات نوعية من النقد: ساهم الوابلي في حلقات المسلسل الكوميدي الهادف «طاش ما طاش» التي بدأ بكتابتها منذ الجزء الحادي عشر وحتى الجزء السابع عشر، وفازت إحدى حلقاتها (حلقة بدون محرم) بجائزة المركز الأول، قبل أن ينضم إلى كتاب ومؤلفي المسلسل الكوميدي الآخر «سيلفي»، علما بأن آخر حلقة ألفها الوابلي من هذا المسلسل كانت بعنوان «صعصعة». وهي الحلقة التي أثارت إعجاب المشاهدين كثيرا لأن مشهدها الختامي تضمن قيام الفنان ناصر القصبي بإطلاق أسماء شخصيات تنويرية محلية (مثل غازي القصيبي وعبدالرحمن الوابلي وطلال مداح ومحمد الثبيتي) على شوارع الأحياء عبر تثبيت لوحات بأسمائهم فيها. كان هذا، بطبيعة الحال، قبل وفاة الوابلي، فصار اليوم مطلبا يشدد عليه محبوه وطلابه وزملاؤه كنوع من الوفاء لشخصه وعطائه ودوره في تحريك المياه الراكدة وتسليط الضوء على معوقات النهوض، وعوامل تعزيز المواطنة، على نحو ما دعا إليه الكاتب علي الشريمي في مقال له بجريدة الوطن. ومما يجدر بنا ذكره هنا هو أن الوابلي لم يكتف بكتابة حلقات المسلسلين المذكورين فقط، وإنما كان له دور أيضا في تقديم بعض الملاحظات والمساعدات قبل أو أثناء العمل. فعلى سبيل المثال يخبرنا الفنان عبدالإله السناني، وهو أحد النجوم البارزين في حلقات طاش وسيلفي، أن الوابلي هو الذي دربه على كيفية التحدث بلهجة أهل بريدة حينما تطلب أحد أدواره ذلك. كيف تلقى المثقفون خبر رحيله؟ وفاة الوابلي التي كانت طبيعية نتيجة نوبة قلبية صباح الجمعة 25/3/2016، ومواراته الثرى عصر اليوم نفسه، طوت سنوات من عمله ومعاركه الفكرية التي جعلت من فقده خسارة مؤلمة، سارعت مجموعة من مشاهير الأدباء والكتاب والإعلاميين السعوديين إلى نعيه، فالكاتب خلف الحربي مثلا غرد قائلا: «نسأل الله الرحمة والمغفرة للدكتور عبالرحمن الوابلي، خسارتنا بفقده عظيمة.. عقل مستنير وخلق رفيق وقلب أبيض، إنا لله وإنا إليه راجعون»، والكاتب الأكاديمي الدكتور حمزة قبلان المزيني غرد قائلا:«رحم الله الزميل الصديق الدكتور عبدالرحمن الوابلي وغفر له وتقبله في جنات النعيم وأحسن عزاء أسرته الكريمة فيه وعزاءنا جميعا»، والدكتور عبدالله الغذامي كتب: «كم من الحسنات يهدونها لك اليوم، ذهبت طاهراً وهم يلاحقونك بسوء الظن، كأني أسمعك تقول: عفا الله عني وعنهم، عليك رحمات ربك ورضاه»، والكاتب توفيق سيف قال: «خسرنا داعية إصلاح صادقا شجاعا محبا عفيف النفس واللسان، عوضه الله خيرا وعوض أهله صبرا وأجرا»، وغرد الدكتور سليمان الهتلان قائلا: «الوابلي كان صوتا وطنيا مهموما بقضايا مجتمعه، جريئا في أفكاره ومقالاته»، وقال الدكتور أحمد التيهاني «لم يكن عبدالرحمن الوابلي المثقف يصادر رأياً، أو يكره المختلفين معه، أو يذكرهم بسوء. كان يحب وطنه حباً، ويستوعب الاتجاهات كلها. كاتب سلام، لكنه لم يكن يرفع السلام شعاراً مجرداً، وإنما يفصل القول في طرائق الوصول إليه، من خلال مقالات تتسم بعمق نادر، ووعي فريد»، وغرد الدكتور منصور بن تنباك قائلا: «قمت هذا الصباح نشطاً لقضاء بعض الحاجات، صدمني خبر وفاة عبدالرحمن الوابلي، عدت إلى الفندق حزيناً، لرحيل رجل يحب الحياة ويحب الناس، غفر الله له». ماذا قال رفيقه في الذكرى الأولى لوفاته؟ صديقه ورفيق دربه في الأعمال الدرامية ناصر القصبي، قال: مازلت غير مصدق. وأشار في الذكرى الأولى لوفاته التي أقيمت في الدمام، إلى أمرين لافتين في شخصية الوابلي وهما« تفانيه في العمل، واصفًا إياه بالعجيب، والآخر شجاعته في تناول ما تعد خطوطا حمراء، قائلا إنه درامي مختلف». وامتدح القصبي صفات عدة في الراحل قائلا: إنه «مناضل حقيقي يتمتع بصلابة صادقة، وفي الوقت نفسه هو بسيط لدرجة أنك لا تشعر بوجوده مع عمق فضائه الفكري، وكان يجمع بين العمل الدؤوب وإنكار الذات، وصفه الكثيرون بالمرونة، وأنا أصفه بأنه أكثر من مرن، لأن ما كان يريحه إلا أن يكون العمل متفقًا عليه ومتقنًا، لقد كان فقده خسارة ليس للدراما فقط، بل خسارة للصحافة والباحثين، وخسارة للوطن كله». كلامه الأخير عشية رحيله ومن غرائب القدر أن الوابلي، الذي كان مقلا في الظهور في وسائل الإعلام المرئية، أجرى قبل وفاته بأربع وعشرين ساعة حوارا تلفزيونيا مع الإعلامي الصديق سلطان القحطاني. حيث حل ضيفا على الأخير في برنامجه «حديث العمر» من قناة روتانا خليجية. في هذا الحوار تطرق الراحل إلى مواضيع كثيرة بصراحته وجرأته المعهودة. فأشار مثلا إلى أن للاقتصاد دورا كبيرا في جعل المجتمع محافظا من عدمه، مضيفا أن الاقتصاد الصحراوي يخلق الثقافة الصحراوية، وهذه تنتج مجتمعا محافظا. لكن أبا جهاد لم يعش ليرى هذا الحوار ويستمع إلى ردود الأفعال عليه، مثلما لم يعش ليشاهد عمله الدرامي الجديد المتمثل في مسلسل «العاصوف.. بيوت من طين» الذي ينتظر أن يثير ضجة كبيرة في أوساط المجتمع عند عرضه قريبا لأنه يتناول التغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية والفكرية لمجتمع الرياض خلال 50 عاما من خلال رصد أحوال عائلة سعودية (أحد أبنائها الفنان ناصر القصبي) تعيش في أحد أحياء العاصمة منذ الستينات، ومرورا بمرحلة الطفرة النفطية المزلزلة في السبعينات فحقبة الجهاد في أفغانستان في الثمانينات فالحقبة المعروفة ب «الصحوة الإسلامية» في التسعينات ومابعدها. * أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين