اختار حازم صاغية عقد الأربعينات، ليكون هو المحطة الثانية في تاريخ الإخوان المسلمين التي تلت محطة النشأة، محطة الإسماعيلية. وأتساءل: لماذا لم يبدأ بتحديد بداية هذه المحطة من عام 1938، وهو العام الذي أعلن حسن البنا فيه دخوله وجماعته إلى ممارسة النشاط السياسي من خلال افتتاحية كتبها في مجلة (النذير) في عددها الأول الصادر في شهر مايو من ذلك العام؟ يمكن أن نستنبط الإجابة عن هذا السؤال، بإيراد ما جاء في القسم الأول من حديثه عن هذه المحطة، والذي قال فيه: «أما المحطة الثانية فكانت في الأربعينات. فبالاستفادة من مناخ الصراع الوطني المصري ضد البريطانيين، وفي ظل تأثر عام للحركات الوطنية في عموم العالم الثالث بالفاشيتين الإيطالية والألمانية، وكل هذا معطوفاً على أوضاع داخلية مأزومة اقتصادياً وسياسياً، حققت جماعة الإخوان نمواً ضخماً بحيث قدر عدد منتسبيها في مطالع ذلك العقد بخمسة ملايين شخص. وقد ترافق النمو هذا مع إنشاء (النظام الخاص) في 1940، بوصفه ميليشياً إرهابية صبغها التأثر بالفاشية في ظل النزاع مع بريطانيا». ما نستنبطه من هذا الحديث أنه حدد بداية المحطة الثانية ببداية الأربعينات؛ لأن جماعة الإخوان حققت نمواً ضخماً في عدد أتباعها في مطالع ذلك العقد، ولأنها أنشأت في سنة بدأها النظام الخاص. وقد عزا هذا النمو الضخم في عدد الاتباع إلى عامل إيجابي هو الاستفادة من انتشار روح المقاومة الوطنية للمستعمر البريطاني، لكن ما لبث أن مزج هذا العامل الإيجابي بعامل سلبي، وهو أن هذه الروح الوطنية -التي تشمل تيارات عدة- متأثرة بالنزعة الفاشية! وأرجع إنشاء النظام الخاص أيضاً إلى التأثر بالفاشية في ظل النزاع مع بريطانيا. يأتي التحفظ على تحديد بداية المحطة الثانية بعام 1940، لأكثر من سبب: الدعاية النازية والفاشية والتأثر بهما بدأت في مصر في الثلاثينات وقد بلغت أوجها ابتداء من أواخر ذلك العقد. والتأثر بهما كان لا يشمل كل التيارات الوطنية فيها، كما يفهم من حديثه. نمو الإخوان المسلمين في عدد كبير من نواحي مصر بدأ في مطلع الثلاثينات. وفي عام 1938، وفي الافتتاحية المشار إليها آنفاً، قال البنا فيها: «أصبح للإخوان المسلمين دار في كل مكان ودعوة على كل لسان وأكثر من 300 شعبة تعمل للفكرة وتقود إلى الخير وتهدي إلى سواء السبيل». وهذا النمو الكبير في جسم الجماعة، هو الذي دفع بحسن البنا إلى إعلان دخوله ودخول جماعته في تلك الافتتاحية إلى ممارسة النشاط السياسي. المؤرخ عبدالعظيم رمضان لا يعد هذا السبب كافياً ولا بريئاً، فيلقي شبهة حول اختيار البنا لذلك العام للنزول إلى ميدان السياسة: «في الواقع أن اختيار البنا لهذا العام بالذات للنزول إلى السياسة يعد اختياراً مشبوهاً، فهذا العام يعد عام الرجعية دون ريب، ففي ختام العام السابق كان الملك فاروق قد تمكن من إقالة وزارة الأغلبية، وأصبح يهيمن على مصير البلاد عن طريق وزارة محمد محمود باشا التي ضمت أقطاب الأقلية. وفي هذا العام ارتفع المد الفاشي إلى ذراه تحت قيادة أحمد حسين زعيم مصر الفتاة، الذي أخذ يهاجم الأحزاب علناً ويطعن في الدستور والحياة البرلمانية، ويرفع شعار الحكومة الإسلامية وحكم الشورى والمناداة بالملك فاروق خليفة للمسلمين، وهي كلها شعارات كانت تخفي تحتها تسليم الملك الشاب أمور البلاد لا شريك له فيها، ووضع السلطتين الزمنية والدينية بين يديه باسم الخلافة». ويضيف قائلاً: «في هذه الظروف نزل البنا إلى ميدان السياسة، لا ليقف إلى جانب القوى الديموقراطية، وإنما ليقف إلى جانب القوى الرجعية ممثلة في القصر الذي يدير دفته علي ماهر باشا». ذكر حازم أن إنشاء (النظام الخاص) كان في عام 1940. وهذا العام هو ليس عام إنشائه، فالنظام الخاص أنشئ كما حدد محمد خميس حميدة نائب المرشد العام للإخوان المسلمين تاريخ إنشائه ب«نحو سنة 1942 أو قبل كده». و«قبل كده» قد تعني في تقديره شهراً أو أزيد من شهر بقليل. التحديد الدقيق لتاريخ إنشاء (النظام الخاص) مهم لارتباطه بإجراءات تعسفية تعرض لها الإخوان المسلمون قبل نشأة ذلك التنظيم السري، يسميها الإخوان المسلمون (المحنة الأولى)، ولارتباط هذه الإجراءات بالصلة التي أقامتها السفارة البريطانية مع حسن البنا. ولكون تلك الإجراءات التعسفية كانت الدافع لإنشاء (النظام الخاص). الإخوان المسلمون منذ نشأتهم سنة 1928، إلى سنة 1936، لم يسببوا أي إزعاج للمحتل البريطاني. وكان الفضل في ذلك كما يقول تقرير للمخابرات البريطانية يرجع إلى الشيخ حسن البنا. لكن مع تلك السنة المذكورة بدأ نشاطهم المعادي للبريطانيين والذي كان مجرد نشاط دعائي ولم يكن نشاطاً مسلحاً، كما فعل آخرون. ثم وصلت إلى السفارة البريطانية - التي كانت تتابع نشاطهم هذا - تقارير تتهمهم بالاتصال بمحور (روما - برلين). أجرت السفارة البريطانية مع حسن البنا مفاوضات لتأييدها في الحرب وللوقوف ضد دول المحور لكن مفاوضاتها باءت بالفشل، لأن موقع بريطانيا العسكري في بدايات الحرب كان ضعيفاً أمام ألمانيا. فطلب السفير البريطاني ما يلز لامبسون إلى رئيس الوزراء حسين حسين سري باشا اتخاذ إجراءات عقابية حيال حسن البنا وجماعته. كان ملخصها بحسب ترتيب حدوثها نقل حسن البنا إلى قنا في الصعيد ونقل أحمد السكري وكيل الجماعة إلى دمياط، نقلاً تأديبياً. إيقاف مطبوعات الإخوان وغلق مطابعهم وحظر اجتماعاتهم ومنع الصحف من نشر أنباء عنهم. سجن البنا والسكري وعبدالحكيم عابدين سكرتير الجماعة. تدخل القصر والحزب السعدي وأفرج عن حسن البنا، وكان قد اعتقل مع زملائه في 6 أو 19 أكتوبر سنة 1941، وأفرج عنه في 13 نوفمبر من ذلك العام. أجرت السفارة البريطانية مفاوضات مع حسن البنا مرة أخرى، بعد خروجه من السجن ووصلت إلى نتيجة مرضية لها. يقول المؤرخ عبدالعظيم رمضان: «على هذا النحو انتهت المحنة الأولى سريعاً، ولكن بعد أن خلفت أثرين في خطة البنا: الأول: تحاشي الاصطدام مع البريطانيين بأي ثمن، تفادياً لإجهاض دعوته. والثاني: بناء التنظيم السري، أو النظام الخاص». وصاحب فكرة إنشاء هذا النظام هو الصاغ محمود لبيب المحال على المعاش والذي كان الوكيل الثاني في الإخوان المسلمين للشؤون العسكرية والمفتش علي الجوالة. كما كشفت ذلك محاكمة الإخوان المسلمين في سنة 1954. ووقت المحاكمة كان متوفى منذ نحو ثلاث سنوات. (النظام الخاص) أو (التنظيم السري) لم يصنعه التأثر بالفاشية، كما هو حال (القمصان الخضراء) في حزب مصر الفتاة و(القمصان الزرقاء) في حزب الوفد. وما يماثل هذه التنظيمات شبه العسكرية عند الإخوان المسلمين هو فرق الجوالة وليس النظام الخاص. وفرق الجوالة هذه كانت مسمى جديدا لمسمى قديم عند الإخوان المسلمين هو فرقة الرحلات والتي يقول عنها حسن البنا في مذكراته: «وكما فكر الإخوان كذلك في مزاولة النشاط الرياضي تأثراً بفكرة الجهاد الإسلامي وتحقيقاً لنيته، وتنفيذاً لأمر الإسلام وتحرجاً مما جاء في الحديث الشريف (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق)، فتألفت فرقة الرحلات للإخوان المسلمين على نظام الكشافة، وانتقلت من الإسماعيلية إلى بقية شعب الإخوان وفروعهم. وكانت نواة فرق الجوالة الآن». وكان لا يحق للعضو في الإخوان المسلمين الانضمام إلى الرحلات إلا من وصل في عضويته إلى مرتبة الأخ العامل. وفي احتفالية أقيمت للملك فاروق بمناسبة عودته إلى القاهرة سنة 1937، قرر حسن البنا المشاركة في هذه المناسبة بعرض عسكري لإظهار قوته وبرضى القصر تقوم به فرق الرحلات للترحيب بعودته، وقد كتبت مجلة الإخوان المسلمين - كما يقول عبدالعظيم رمضان تغطية صحفية عن مشاركتهم في هذه المناسبة تحت عنوان مثير (حشد لم يسبق له نظير في تاريخ مصر الحديثة)، وأسمت فرق الرحلات في تغطيتها بالفرق العسكرية لأول مرة! نظام فرق الرحلات (الجوالة لاحقاً) استمده البنا في بعض وجوهه من حصص التدريب الرياضي المطبق في المدارس المصرية النظامية واستمده بعمومه من النظام الكشفي الذي كان قائماً في مصر. أما (النظام الخاص)، فيختلف عن (القمصان الخضراء) و(القمصان الزرقاء) و(الجوالة) بأن نشاطه كان سرياً، وكان مدعوماً بجهاز مخابرات شرح عبدالعظيم رمضان طبيعته ونطاقه، فقال: كان «على جانب كبير من المهارة، بحيث تكون القيادة على علم بكل صغيرة وكبيرة عن خصومها وأصدقائها على السواء. وكان نطاق جهاز المخابرات واسعاً يمتد ليشمل جميع الأحزاب المصرية الموجودة في ذلك الحين: الوفد، والسعديين، والأحرار الدستوريين، والكتلة الوفدية، والحزب الوطني، ومصر الفتاة، وحزب العمال، وحزب الفلاح الاشتراكي، وجبهة مصر، والشبان المسلمين، والشبان المسيحيين، والجماعات الشيوعية، فضلاً عن النقابات والجمعيات المختلفة. وكانت هناك مخابرات في كل وزارة، وفي الجامعة والأزهر والمدارس. وكانت تقدم تقارير عن القائمين بالأعمال في أقسام البوليس وقواتها، والمحال الصناعية اليهودية والأجنبية والمصرية». (النظام الخاص) كان جهازاً عسكرياً محضاً، أنشئ لحماية الجماعة، وكان سيصبح أداتها في الانقلاب على الوضع السياسي القائم، والاستيلاء على السلطة عندما يبلغ الإخوان (مرحلة التنفيذ)، وهذه المرحلة - كما في رسالة التعاليم إلى إخوان الكتائب للبنا - تسبقها مرحلتا التعريف والتمكين. وهذا النظام كان مدججاً بالسلاح، وهو الذي قام بأعمال الاغتيالات السياسية وأعمال التخريب الإرهابية. وكما نرى فإنه كان الخطوة الأخيرة لخطوات شبه عسكرية سبقته. وهو قائم في عقيدته العسكرية على مفهوم الجهاد الإسلامي الموجه إلى الداخل وليس إلى الخارج، كالمستعمر البريطاني والمحتل الصهيوني، ودع عنك ادعاءات الإخوان المسلمين الكاذبة، وكذلك فكرة التدرج في الدعوة بمراحلها الثلاث، هي مستوحاة من التجربة التاريخية الإسلامية. كل هذا التوضيح لأنفي عن (النظام الخاص) أنه كان مجرد محاكاة للتنظيميات الميليشاوية الفاشية. وأحسب أن قول حازم صاغية أن عدد المنتسبين إلى الإخوان المسلمين قدر في مطلع الأربعينات بخمسة ملايين شخص قول مبالغ فيه جداً، وذلك بالنظر إلى عدد سكان مصر في ذلك الزمن. فهذا التقدير لعددهم يجعلهم ربع سكان مصر إلا قليلاً. إن حسن البنا لم يبالغ في عدد أتباعه إلى هذا الحد. ففي لقاء أجري معه في مجلة (آخر ساعة) بتاريخ 5 مارس 1946 - أي بعد مطلع الأربعينيات- قدر عددهم بمليون شخص في مصر، ونصف المليون في البلاد العربية. وإحصاؤه هذا اقتصر على الإخوان العاملين، أما الإخوان المناصرون، فكما قال عنهم، أنهم كثيرون. المحطة الثالثة حسب تقسيم صاغية لتاريخ الإخوان المسلمين كانت بدايتها في سنة 1954. وقد اختار هذه البداية، لأنه في تلك السنة زج عبد الناصر بهم في السجون، بعد محاولتهم اغتياله، ف«اضطهدوا ونكل بهم» كما قال. في هذه المحطة يبتسر حازم مجريات الصراع وأسبابه بين ضباط الثورة والإخوان المسلمين بأنه «نما عن اصطدام جسدين سياسيين متشابهين في نزوعهما الاستبدادي، ودليل هذا التشابه أن السلطة الانقلابية سبق أن استثنت الإخوان وحدهم في بداية الأمر، من إجراءات الحل التي طاولت جميع القوى السياسية الأخرى». إن استثناء الإخوان المسلمين - وهذا أحد أوجه الابتسار- من قرار حل الأحزاب ليس سببه تشابههم مع ضباط الثورة في نزوعهما الاستبدادي، بل هو يرجع إلى صلة تعاون وتنسيق وعلاقة وطيدة بينهما منذ مطلع الأربعينات إلى وقت القيام بالانقلاب، ويجب أن لا ننسى أنه كان من ضمن قيادات الضباط الأحرار عدد لا بأس به من الإخوان المسلمين. ولو كان الأمر كما قال حازم لأستثني آخرون، هم كما الإخوان المسلمون يتشابهون مع ضباط الثورة في نزوعهم الاستبدادي. يذهب حازم إلى أن تعرض الإخوان للاضطهاد والتنكيل أكسبهم تعاطفاً كان من الصعب أن يحظوا به في ما لو استمروا حلفاء للسلطة ملحقين بها. وعلى عكس ما ذهب إليه، فإن شعبية عبدالناصر بدأت من محاولة اغتياله واستمرت في تصاعد في مصر والعالم العربي، ولم يؤثر عليها بشيء اضطهاده للإخوان المسلمين والتنكيل بهم، ولا إعدامه لسيد قطب ولرفيقيه محمد يوسف هواش وعبدالفتاح إسماعيل. وهذا الاضطهاد والتنكيل بالإخوان المسلمين لم يكسبهم تعاطفاً في الخمسينات والستينات، لا في مصر ولا في العالم العربي. وهذه مفارقة تدعو إلى التأمل! الإخوان المسلمون جنوا ثمار المحنة العظيمة التي تعرضوا لها في وقت متأخر من حدوثها، وتحديداً بعد مضي سنوات يسيرة من زمن التشهير بعصر عبدالناصر والناصرية. وهذه الثمار كانت ثماراً وفيرة استفادوا منها على صعد شتى في العقود الماضية. أتى حازم صاغية باعتذارية جديدة لسيد قطب وكتابه (معالم في الطريق) لم يجد الزمان بها على أحد من كتاب الإخوان المسلمين في سنين ماضية، قال فيها: يمكن اعتبار التطرف الذي أبداه سيد قطب، لا سيما في كتابه الأشهر (معالم في الطريق) استجابة عكسية لما بدا تحديثاً وأدلجة للاستبداد يتولاهما مثقفو اليسار والتحالف مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية «الملحدة». الذي أعرفه أن كتاب سيد قطب (معالم في الطريق) صدر في العام نفسه (1964) الذي أفرج فيه عبدالناصر عن الشيوعيين! وقد أعاد سيد قطب مراجعة أفكاره في تفسيره الشهير (في ظلال القرآن) الذي استل هذا الكتاب منه إلى حد نزح إلى أصولية متشددة أكثر من أصوليتيه السابقة، تحت وقع التأثر بالمودودي، في وقت كان عبدالناصر معاد جداً للشيوعية! وسيد قطب أعدم بعد شهرين أو ثلاثة من بدء تكليف عبدالناصر الشيوعيين أو مثقفي اليسار - ما أسماه حازم - ب«مهام ترقى إلى صناعة العقل العام في مصر»! استناداً إلى هذه المعلومات أسأل بحيرة: كيف حدثت تلك الاستجابة العكسية التي أدت بسيد قطب إلى التطرف في كتابه (معالم في الطريق)؟! وفي المقال المشترك الذي كتبه حازم صاغية مع حازم الأمين (طريق المسلمين في المشرق من التبشير والدعوة إلى الفريضة الغائبة) أتيا باعتذارية أخرى حمّلا فيها مسؤولية تطرف سيد قطب عصر عبدالناصر بمجمله، وليس حصراً - كما هنا - سنوات التحالف مع مثقفي اليسار والتحالف مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية «الملحدة». كان بودي أن أقف عند تلك الاعتذارية، وأن يكون لي وقفات أخرى مع ذلك المقال المشترك لأن أطروحته هي الأطروحة نفسها التي ناقشت بعض معلوماتها وبعض أفكارها في هذا المقال وفي مقالي السابق لكن الحيز لا يسمح بذلك. وسأجمل هذه الوقفات بالقول إن المقال المشترك مثله مثل مقال صاغية المنفرد (عن الإخوان المسلمين في تعدد أطوارهم)، يتكئ على مادة تاريخية، لا تخلو من معلومات مهزوزة وتفسيرات مبتسرة وخلاصات متعسفة.