أصبحت المملكة من الدول الرائدة في الشرق الأوسط التي أصبح لديها تعليم صحي منتشر في جميع مناطقها الإدارية وهذا تم في فترة قياسية من الزمن لا يتجاوز العشر سنوات وأصبح لدينا كليات صحية في مختلف التخصصات في جميع مناطق المملكة وهو توجه إيجابي بكل المعايير ليس فقط لسد احتياج هذا البلد المبارك ولكن لكي نكون إحدى الدول الرائدة في الاقتصاد المهني وخدمة الحياة البشرية في التخصصات الصحية. في المقابل هناك وعي مجتمعي بأهمية هذه التخصصات حتى أصبحت الخيار الأول للشباب والشابات بعد الحصول على الشهادة الثانوية. ليس رغبة حقيقية في التخصص وحباً للمهنة في ذلك الخيار فقط ولكن الفرص الوظيفية المتاحة في هذا القطاع هي الدافع الرئيسي في الاختيار. كذلك أصبح التسرب في التخصصات خلال المرحلة الجامعية نسبته ضئيلة جدا مقارنةً بما كان يحدث في الثمانينات والتسعينات ميلادية. هذا التوسع في استحداث الكليات الصحية وتجهيز المباني الأكاديمية وكذلك العنصر البشري لم يقابله على الوجه الآخر بناء منظومة تدريبية متكاملة تتوافق مع أعداد الخريجين الذين تنتظرهم سنة تدريبية كاملة (الامتياز) في المرافق الصحية، وكذلك أيضاً أثناء دراستهم الإكاديمية فالعديد من التخصصات الصحية الآن في الجامعات السعودية أصبحت تعتمد في مناهجها على التعليم المبني على البراهين وهذا النوع من التعليم العالمي الحديث الذي لا يعتمد على المعلومة ونظام التلقين التقليدي القديم، نظراً لتوفرها في قواعد البيانات العلمية الرقمية ذات المرجعية العلمية الأصيلة يحتاج وجود الدارس في المستشفى والمراكز التخصصية ابتداء من السنة الدراسية الثانية أو الثالثة وهذا يجعل المكان عبارة عن خلية نحل من الدارسين والمتدربين. وكذلك يضاف إلى هذا العدد، الأطباء المقيمين وكذلك التخصصات الطبية المساعدة من برامج زمالة، وماجستير ودكتوراه. قبل ثلاثين عاماً كانت كل كلية صحية لا يتجاوز خريجوها 20-25 خريجاً في مختلف التخصصات وكانت الكليات قليلة ولا تتجاوز العشر كليات في جميع التخصصات المتاحة في ذلك الوقت وهي تخصصات تشتمل فقط على التخصصات الأساسية في الصحة العامة، كما كانت المستشفيات التعليمية ومستشفيات وزارة الصحة والقطاعات الصحية الأخرى لا يتجاوز المتدربون فيها 10-15 متدرباً في جميع التخصصات في ذلك الوقت، في المستشفى الواحد. اليوم نحن نتحدث عن مئات المتدربين وأحيانا يصل العدد إلى الألف متدرب في جميع التخصصات في المستشفى التعليمي الواحد أو المستشفى العام أو التخصصي وهذه حقيقة وليست مبالغة وما تقوم به هذه المستشفيات من جهود جبارة وأحيانا تكون مستحيلة في تنفيذها وهي جهود نكن لها كل التقدير والاحترام. البيئة التدريبية في هذه المرافق وصلت إلى حد لابد أن نجد لها الحلول وفي أسرع وقت ممكن وإلا فإننا سنواجه كارثة صحية في مخرجاتها المستقبلية. هذا النوع من التعليم الذي يتعامل مع حياة البشر مباشرةً يحتاج إلى كوادر مدربة تدريباً عاليا وممارس لجميع التقنيات قبل أن يستلم مهماته والتعامل مع جسد المريض أو أخذ عينة من جسمه أو الكشف عليه بتقنية معينة مهما كان نوعها. التدريب الصحي الناجح يحتاج إلى عوامل عديدة لنجاحه، وفي ظل هذا العدد الكبير جدا من المتدربين في المكان الواحد لا بد من وجود خطط قصيرة المدى وخطط طويلة المدى لهذا الجانب لكي نتدارك هذه الكارثة قبل أن تقع بنسبة كبيرة ونصبح عاجزين عن حلها مهما كانت الحلول، فبوادر الكارثة نراها تحلق في الأفق الآن ولا بد من التدخل السريع (Quick Fix) ومن ثم بعدها نستطيع أن نبني خططنا القصيرة والبعيدة القائمة على احتياج فعلي ويطبق عملياً للتجربة وتلافي السلبيات وليست تقارير ودراسات نظرية غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. أخيرا: أهملنا قديما الإعداد التربوي للمعلمين ونعيش الآن واقعاً صعباً في التعليم وتأهيل المعلم، وأتمنى أن لا نقع في هذه الكارثة مرة أخرى في المجال الصحي. إذا أردت أن تخلق مجتمعاً، ما عليك إلا التركيز على التعليم والصحة وسيتحقق الهدف في البناء أو الهدم لهذا المجتمع. * أكاديمي سعودي