المدينة : في ثاني حلقات حوارنا مع الداعية الشيخ الدكتور عايض القرني يؤكد أن بعض الصّحفيّين تخصّص في الهجوم عليه.. وليس له شغل سوى الكتابة عنه، مضيفا أنه يأتيه السب في الصباح والمديح بعد العصر.. ويبشرونه بقصيدة الثناء وفي المساء بقصيدة الهجاء. و يعترف الشيخ عايض القرني بأنّه تعجّل في هجاءِ القصيبي ولو عاد به الزّمن ما هجاه، مشيرا إلى أنه إذا هاجمه أحد لا يرد عليه بل يحسن إليه فكل دروسه وكتبه ومقالاته لا يلمز فيها أي أحدا، قائلاً إن " هناك فوضى عارمة فالمهندس يريد أن يكون خطيباً والداعية راقيا" كما أنه لم يندم على تعاونه مع الفنان محمد عبده ، مشيرا إلى أن بعض الدّعاة يسمون الكُتَّاب زنادقة ومنافقين.. وبعض الكُتَّاب يسمون الدعاة خوارج!! * كانت لك قصيدة في هجاء المرحوم الدكتور غازي القصيبي، عندما تعيد قراءتها ما هو شعورك بعد أن فارق القصيبي الحياة، وبدأت تترى في الساحة بعض الّتحولات الكبيرة؟ يوم الثلاثاء الماضي كتبت مقالة بعنوان (رحم الله غازي القصيبي) وبينت مسيرتي معه في ست أو سبع نقاط. إذا أعدت قراءة قصيدتي تلك فلن أكتبها وأنا في وضعي الحالي. تعجلت في الرّد وتحمستَ وتعجلَ هو أيضاً -غفر الله له- ؛ لأنّه كتب عني كتيب اسمه (مهلاً يا عائض القرني)، وأبنت أننّي تصافيت معه عندما وجدته في قصر الأمير سلمان ونحن نعزي في موت الملك فهد بن عبد العزيز -غفر الله له-؛ صافحته فاحتضنني فقال بيت الشعر: وقد يجمع الله الشتيتين بعد أن يظنا كل الظن ألا تلاقيا رسالة إليه..!! ثم أرسلت له في لندن كتاب (إمبراطور الشعراء)؛ فردّ علي برسالة رقيقة قال فيها: "وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته" ثم كتب بخط يده: "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسّلام". ثم أثنى على الكتاب واعترض على شرحي لقول المتنبي: يترشفن من فمي رشفات يظنهما أحلى من التوحيد وذكرته في برنامج إضاءات مع الأستاذ تركي الدخيل فأثنى علي؛ وقال كلمة لا أنساها: "لا يهمونك سر إلى الأمام ولا تلتفت إلى الخلف، ولا يهمك من يكتبون في الظلام في الإنترنت". كتب لي أيضاً رسالة حول كتابي (لا تحزن) وقال لي: "عائلتي تشكو من القلق والاضطراب فأهديتها الكتاب فهدأت" ثم قال.. والرسالة موجودة: "كتب الله لك بكل حرف سطرته أجرا". كنت أسأل عنه في أوقات المرض، وسألت المرافق، ثم ترحمت له وغفر الله لي وله، وسامحني وإيّاه ولسائر المسلمين، وليس في قلبي سوى الحب للجميع، والله ليكدر خاطري أن ينزعج أحد من المثقفين أو المفكرين أو الصحفيين، فضلاً عن أهل العلم. لا أريد أذيّة إنسان مسلم؛ وإنّما أريد الصّلاح للجميع وهذا ما وصلت إليه. لذلك أعيش أماناً ومصالحة مع نفسي وأشعر باطمئنان. عندما ألَّفت كتاب (لا تحزن) طالعت كتب الحكماء عن الصفح والحلم والسّماحة، وكيف تستثمر سعة البال والحلم والاستقرار فوجدت هذا والحمد لله. رمز ثقافي * لا شك أن فقد المرحوم الدكتور غازي القصيبي أحدث نوعاً الكدر في الساحة الثقافية والفكرية، ماذا تقرأ من هذا؟ - أقول إنّ الدكتور غازي القصيبي رمزٌ ثقافيّ وأدبيّ وصحفيّ وروائيّ. هو رجل موهوب وعندما تحدثت في الملحق الذي كتب فيه في صحيفة الجزيرة أراه أفضل من جائزة نوبل؛ لأنّه كتب عنه مثقفون ومفكرون. ثم إنّه رجل ناجح؛ سفيرًا ووزيراً، وكان مجموعة مواهب في رجل واحد. لكنّها سنة الله تعالى في العباد، فالبقاء له وحده جلّ في علاه. كذلك أعجبني عن اهتمامه بكتاب (جامع الأصول في السنة) لابن الأثير، وله كتاب (ثورة في السنة النبوية) شرح فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. تغيير المناهج * لك العديد من المواقف الجلية بخصوص تغيير المناهج الدراسيّة، هل لازلت تؤمن بتلك المواقف؟ وهل هناك تباشير جلية تراها الآن؟ - كتبت عن تغيير المناهج قلت: "أمّا المقدسات والثوابت التي نؤمن بها فلا تتغير، ولن يستطيع ذلك أحد في الأرض"؛ ولكن هناك بعض الكتب التي يقرأها الشباب مثل (شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك) الذي تمّ تأليفه في القرن الرابع أو الخامس وكأنّه طلاسم يقرأه الشباب في المعاهد العلميّة والثانويات. هناك - أيضاً- الإغراق في الجغرافيا كالصّادرات، والواردات في الكاميرون، وساحل العاج، وأوغندا، والمطاط والكاكاو والأناناس. الناس سافروا إلى عطارد والمريخ. نحن نهتم بالعلوم النظرية ونترك العلوم الميدانية. الأمريكان لا يتوسعون في الأمور النّظرية وأعمالهم ميدانيّة في الهندسة والتكنولوجيا والطّب؛ ولذلك أبدعوا واخترعوا واكتشفوا، ونحن لا زلنا نجترّ مصنفاتنا كلّها ذهنيّة وليست ميدانيّة. لذلك لا تجد لدينا إبداعا. يتخرج من الجامعات ألوف ليس لهم وجود يذكر فليس لدينا إبداع أو اختراع أو اكتشاف حتّى إذا طالعت فضائياتنا الشعبيّة تجد مزاين الإبل، والرّقصات، والعرضات، والحفلات، وتباسي الحاشي والقعود والخرفان، ونظن مع ذلك أننّا محسودون وأن الآخرين يحسدوننا. ليس هناك أي تعارض * ولكنّني قرأت لك في أحد الحوارات أنك قلت:" ما فائدة أن ندرس أبناءنا في المتوسط والثانوي بعض المصطلحات الهندسية والرياضية، ألا يتعارض هذا مع بعض ما قلته الآن؟ لا يتعارض. أنا على ذلك الرأي. في المعاهد العلميّة المتخصصة في علم الشريعة مثلاً جمعوا 17 مادة درستها مع الشيخ عبد الرحمن السديس، حيث كنّا في صف دراسي واحد لمدة ثلاث سنوات. كانوا يدرسونا الفيزياء والكيمياء ونحن أطفال، وندرس في معهد علمي، الشريعة بأنواعها، والفقه والتّوحيد والتّفسير، والعلوم الدينيّة واللغة العربيّة، فلماذا لا يكون هناك تخصص؟ مشكلتنا أنّنا أكثرنا من الفنون فأغرقنا الطّلاب في ذلك. في الغرب يأخذون مادة ويقتلونها بحثاً فيخرج النابغون والعباقرة. نحن أغرقنا أبناءنا بالمواد الكثيرة في المرحلة المتوسطة والثانويّة وحتّى في الجامعة. لماذا لا نفرد أقساماً خاصّة؟ من يريد دراسة الفقه ندرسه الفقه بتخصص حتّى يخرج فقيهاً عالمياً، وكذلك مع من يريدون دراسة الهندسة واللغات والأدب. الحضارة الغربيّة قامت على مبدأ التّخصص، والصحابة - رضوان الله عليهم- مع النبيّ الكريم - صلّى الله عليه وسلّم- كان لهم فن التّخصص. فاختصّ عبد الله بن عباس بالتفسير، ومعاذ بن جبل بعلم الحلال والحرام، وزيد بن ثابت بعلم الفرائض، وحسان بن ثابت في علم الشّعر والقافية. لكن في واقعنا نحن فإنّ المهندس يريد أن يكون خطيباً وداعية، وأحياناً يرقي وربما يعبَّر الأحلام. هناك فوضى في التعليم ولذلك ضعفنا في كل التّخصصات. مع محمد عبده * كثر الجدل حول تعاونك مع الفنان محمد عبده من خلال إنشاده قصيدة (لا إله إلا الله) التي قمتم بكتابتها، ومن ثم تباينت ردود الأفعال بين مؤيد ومعارض لهذا التعاون. هل ندمت بعد إنتاج هذه القصيدة؟ لم أندم والحمد لله، لأنّي كنت على بصيرة من أمري وصدري منشرح. القصيدة تعظيم للباري ومحمد عبده رجل مسلم؛ ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنشدها حسب اتفاقي معه بدون معازف. كما أنّ القصيدة نجحت وحازت على القبول، وكانت 90% من ردود الأفعال إيجابيّة، ولدي دراسة في هذا الأمر. وبثت القصيدة ما تقارب 60 فضائيّة. الحمد لله أنا مطمئن لها ومنشرح الصدر. * وبعد هذا النجاح الذي قلت به.. هل ننتظر منكما تعاونا مقبلا ؟ - إلى الآن لا يوجد شيء جديد. من أبرز المطربين * لماذا تم اختيار محمد عبده تحديداً دون غيره من أصحاب الأصوات الجميلة؟ - معلوم أنّ محمد عبده من أبرز المطربين، ويطلق عليه وسط الفنانين فنان العرب، وإذا جئت لمقارنة المتنبي بالشعراء تجده متفوقاً، في كلّ مجال هناك متفوقون. لا خسارة..! * هل تعتقد أنّ هناك خسارة تكبدتها جراء التّعامل مع الفنان محمد عبده؛ خاصّة بعد الجدل الذي أثير حول تعاونك معه؟ أبداً؛ الحمد لله أننّي أدرك سماحة الإسلام، وأخبار السّلف وتعاونهم مع الشّعراء وغيرهم. ومقصدي - بإذن الله- نبيل، والكلام جميل، والصّوت جميل. اجتمع الكلام الطيب مع الصّوت الجميل؛ وجعلنا الناس يقولون "لا إله إلا الله". * ولكن؛ هل حدث خلاف بينك وبين محمد عبده حول التّعاطي مع هذه القصيدة؟ - أبداً؛ بل كان كلّه ود، وكلّ شيء على ما يرام، وقبل بداية رمضان الحالي اتصل عليّ من لندن وطلب منيّ أن نتنازل سوياًّ عن حقوقنا في هذه القصيدة؛ للتبرع بها لصالح جمعية للأيتام فقلت له: أصبت، وأرسلت له تنازلا خطيّا مني. * في الآونة الأخيرة نرى تهافتاً من بعض الدّعاة على الظّهور الإعلاميّ بشكل لافت، ما رأيك في ذلك؟ - أُمرنا في الإسلام أن نكل السرائر إلى الله تعالى، وألّا ندخل في نيات النّاس، كما يفعل بعض الصحفييّن والكتّاب. النبي - صلّى الله عليه وسلّم- يقول "إنّما الأعمال بالنّيات"؛ وعندما أراد بعض النّاس أن يشكّكوا في عقيدة البعض قال "ما أمرت بشق قلوب الناس ولا بقر بطونهم" فلماذا ندخل في مقاصد الناس؟ ربما يوجد بينهم من يحبون الظّهور؛ ولكن هل نحن موكلون بالآخرين؟ وهل نسأل يوم القيامة عنهم؟ لماذا إعادة محاكم الّتفتيش؟ ولماذا ننصب المشانق لعباد الله؟ لماذا لا نعيش التّصالح الاجتماعي؟ مجتمعنا مع ما عنده من تخلف في اللحاق بركب الحضارة؛ لكنه يجيد الصّراع في ما بيننا وإلقاء التّهم، بعض الدّعاة الآن يسمون الكُتَّاب زنادقة ومنافقين، وبعض الكُتَّاب يسمون الدعاة خوارج، ومن هذه التهم تزيدنا وهناً وشتاتاً وفرقة... كلام عام..! * هل أُصيب الشيخ عائض القرني من وابل هذه المفردات؟ ربّما بكلام عام، ولكن - الحمد لله - صارت عندي مناعة؛ لأنه يأتيني سبّ في الصّباح ومدح بعد العصر، ويبشروني بقصيدة الثناء وفي المساء بقصيدة الهجاء .. فكما قال المتنبي: فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال الغيرة بين الدعاة * الظهور الإعلامي المكثف لبعض الدعاة، والحظوة لدى الناس برأيك هل تصيب الدعاة بالغيرة من بعضهم البعض؟ - لا أدري؛ ولكن الدّعاة ليسوا أنبياء ولا ملائكة، وأقول لمن أصابته الغيرة والحسد أن يتوب إلى الله، ويعمل لأخراه، وأن يعمل لربه فهو الذي يجازيه. لمن يتساءل عن سبب بروز فلان من النّاس، أو غيره أقول: إنّ الذي يملك مواهب سوف يفرض نفسه، الصحفيّ المتميّز يفرض نفسه، وكذلك الشاعر والمهندس والطبيب وغيرهم. * كثيراً ما يستخدم الداعية الشيخ عائض القرني أنواعا من البديع؛ كالسّجع والجناس في خطبه، هل نعدّ ذلك استعراضاً يلبي حاجة في نفسه؟ أم أنّها تأتي عفو الخاطر دن تكلف؟ - لا أكتمك سراً أنّني إذا قرأت في الأدب، ورأيت أنّ الجمهور يعجب أحياناً بالسجع وأحياناً بالتّورية اللطيفة أو النكتة الجميلة أستخدم تلك الأساليب من باب قوله تعالى "وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً". أمّا استعراض العضلات فالله أعلم بذلك والله سبحانه وتعالى هو الرّقيب. لا أجد أن السجع موهبة. مقالتي التي أرسلها لملحق "الرسالة" أجدها أفضل من المسجوعة. بل أتتني رسائل على جوالي عندما نشرت لديكم بعض المقالات وآخرها "طيبة الطيبة" عتب علي فيها بعض الكُتَّاب والصحفيين، بينما المقالات الأخرى غير المسجوعة مثل مقالاتي في (الرسالة) أو في (الشرق الأوسط) لا أجد وراءها غير الثناء. لذلك أرى أن يكتب الإنسان على سجيته وهذا هو الذي بدأته الآن، ولا أتكلف جملة، بل أكتب على سجيتي، ويقول المتنبي في بيت فريد إنما يحصل النجاح مع الطبع وعند التعمق الزلل * إذاً نتفق في أن المحسنات البديعية تضعف المعنى، وأحياناً تسقط الفكرة، وتصرف الذهن عن إدراك المعاني، هل تؤيدني في ذلك؟ نعم؛ وكما يقولون "إذا كثر البياض أصبح برصاً" وقد جعل الله لكل شيء قدرًا. إنني أنكر ذلك * إذا ما رأيك في إكثار بعض أئمة المساجد من الدعاء الحافل بالمحسنات البديعية كالسجع مثلاً؟ - أنكرت أولئك وأود استعادة بعض المعاني من مقالتي (خطباء وأئمة عذبوا الناس)؛ لأنّهم سجعوا وتكلفوا وخرجوا عن الخشوع. ثم أنّ التّفاصيل في الدّعاء ممّا لم ينزل الله به من سلطان. يمرّون بنا في القارات، ويقولون اللّهم أنصر المسلمين في أفغانستان والعراق، ومسلمي مورو، ثم يرجع إلى أفغانستان، ويتذكر الصومال، ثم يدعو لبناتنا وعمّاتنا وخالاتنا بتفصيل ممل يدل على الرّكاكة. كذلك ألوم بعض الخطباء الذين يسجعون ويتكلفون، حتّى إنّني سمعت خطيباً مرة يقول مثلاً " وعلينا الرضا بما مضى وانقضى ولو كان على جمر الغضا". ضاحكا.