الدين ليس شيئاً جميلاً ورائعاً فحسب، بل عنصراً ضرورياً في حياة الإنسان، كالهواء والغذاء والماء. في الهواء، والغذاء، والماء، حفاظ قوام البدن وضمان استمرارية حياته. الدين، من جهة أخرى، فيه حفاظ قوام الروح وضمان استمرارية حياتها. وما الإنسان إن لم يكن بدناً وروحاً؟ الدين يخلص الروح من عبثية الوجود وكآبته، ويبعث قيماً تغتذي منها الروح وسط عالم طبيعي، آلي، جامد، أعمى. ولست هنا بصدد – ولا يهمني – الجدل الفلسفي بين المثنوية القائلة بالروح والبدن، والمادية المنكرة لوجود الروح، المكتفية بالوجود المادي. والدين من حيث موضوعه الإيمان، ومكانه العاطفة والوجدان، لا تجري عليه المعادلات الرياضية، ولا يخضع للتجربة العلمية، فإنه يبرز لنا معضلة عويصة؛ عندما يتحول الدين في ذواتنا إلى "هوس" يستبد بحيواتنا، يشُلّ ملكة العقل ويعطل الحس النقدي والتفكّر. يُعَمّى علينا باسمه، فنقتل باسمه، وننتهك باسمه، ونعتدي ونستعدي باسمه، ويُجرى علينا الأحكام الظالمة باسمه، ونُقاد كالنعاج باسمه. هنا ينقلب الدين من نعمة إلى نقمة ويتوجب علينا الوقوف أمام هذه المعضلة. التراكم التاريخي للعقل الديني-الفقهي اندمج مع المجتمع وتمدد فيه أفقياً ورأسياً تحت تأثير السلطة السياسية المستبدة، مباشر في أحيان وغير مباشر في أحيان أخرى، على امتداد الرقعة الجغرافية الإسلامية. التراكم والتوسع للعقلية الفقهية النقلية الصرفة كوَّن العقل المسلم منذ قرون غير قريبة، وجعل التدين متعلق بإلزامية هذا التراكم في كل شأن من شؤون حياة الفرد والمجتمع، دقيقها وجليلها، حتى ذاب الكلّي في الجزئي ولم نعد نرى من الدين سوى أجزاء مفرقة ومبوّبة في بطون كتب المتون والشروح، ينطق بها رجال يحتكرون الدين ويتكلمون باسمه. من وجهة نظري أن الدين الأصلي هو الدين البسيط الغير مركّب. هيكله النص القرآني الخالص وما تواتر عن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – من السنة الفعلية التبيينية، وموضوعه المقاصد العظمى والقيم العليا. الإلزام والتقييد فيه، سواء بالوجوب أو التحريم، يشكل – على وضوحه وصرامته – الحيز الأصغر أمام دائرة المسكوت عنه المباح الواسعة، والتي تتيح للإنسان حيز شاسع للتحرك بحرية فيما يوافق مصالحه المشروعة ويحقق طموحه في ممارسة حياته التي وهبه الله تعالى إياها. ما نراه اليوم من هَوَس التَدَيّن ليس إلا نتاج الدين المركب المتراكم، الذي يهتم بالجزئيات على حساب الكليات، يهتم بالشكل على حساب المضمون، يهتم بالرتوش على حساب القيم العليا. على سبيل المثال لا الحصر؛ فإني لا أجد تفسيراً للحرص الشديد على معرفة هل إزالة بضع شعرات من الحاجب يشكل خطراً على الدين أكثر من إساءة معاملة الخادمة المنزلية وإهانة إنسانيتها، إلا هوس التدين.